دلال البزري.. عند لحظة اليسار في لبنان

دلال البزري.. عند لحظة اليسار في لبنان

27 أكتوبر 2021
أحد شوارع بيروت أثناء الحرب الأهلية، أيلول/ سبتمبر 1975 (تصوير: ميشيل جينفراي/ Getty)
+ الخط -

بعد بداية الثورة السورية في 2011، كان لافتاً انقسامُ اليسار العربي بين مؤيّد لها ومؤيّد للنظام. وقد شكّلت هذه الملاحظةُ بذرة فكرة بحثية قادت الكاتبةَ والباحثة اللبنانية دلال البزري إلى جولة بين عددٍ من الكتّاب اليساريّين السوريّين والعرب، مسجّلةً، قبل ذلك، أنَّ اليسار اللبناني كان سبّاقاً في الانقسام حول ثورة السوريّين.

وخلال بحثها في جذور ذلك الانقسام المرتبط بانقسام اليسار اللبناني بين فريقَين يُعطي أحدُهما أولويةً شبه مطلقة للصراع مع الإمبريالية والصهيونية وتنْصبُّ أولوية الثاني على محاربة الاستبداد، بدأت تتشكّل ملامِح كتابٍ يُضيء على تجربة اليسار في لبنان.

ضمن سلسلة "مذكّرات وشهادات"، صدر الكتابٌ حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تحت عنوان "يساريون لبنانيون في زمنهم"، وفيه تتناول البزري سيَر وفكر وممارسات عددٍ من اليساريّين الشيوعيّين في لبنان بين ستينيات وسبعينيات الماضي، وغالبيتهم من الكتّاب والجامعيين والصحافيّين.

ومن خلال مقابلات أجرتها مع أكثر من خمسين شيوعيّاً، ممَّن انتسبوا إلى "منظّمة العمل الشيوعي" و"الحزب الشيوعي اللبناني"، وأيضاً من خلال ما كتبوه وما كتبه رفاقهم وخصومُهم، تُضيء الكاتبة على تلك الشخصيات التي وُلد أكثرها خلال الخمسينيّات، وعاشوا ذروة تألّقهم بداية التسعينيات.

وتطرح الكاتبة جملةً من الأسئلة؛ مثل: كيف انتسب هؤلاء إلى الشيوعية؟ وما الذي دفعهم إليها؟ وما السياقات التي حكَمت مسارهم؟ وما الأحداث والتأثيرات والمُناخات والقناعات التي طبعت تجارُبهم؟ وكيف استمر بعضهم، وثبتَ على التزامه؟ وكيف خرج عليه بعضهم الآخر؟ وكيف وصل بهم الأمر إلى الاختلاف على مواضيع أساسية وجوهرية، مثل سلاح "حزب الله"، والنظامَين السوري والإيراني؟ وهل يعتبرون أنهم ما زالوا يساريين؟ وبأي معنى؟

يقف الكتاب عند تجربتَي "الحزب الشيوعي اللبناني" و"منظّمة العمل الشيوعي"

فضّلت المؤلّفةُ أن تتوقّف عند تجربتين فقط؛ هما "الحزب الشيوعي اللبناني" و"منظّمة العمل الشيوعي"، مبرّرة ذلك بصعوبة لملمة مشهد اليسار اللبناني، أو ربما عدم استحقاقه اللملمة، "لكثرة الأحجار والألوان والأحجام في الموزاييك الذي يشكّله، ولتواضُع أثره في المجال الذي يستهدفه"، مُشيرةً إلى أنَّ هذه الدراسة هي من النوع 'التجريبي' إذًا، لا هي تاريخ، الأفكار خصوصاً، ولا سوسيولوجيا، ولا علم نفس، ولا أنثروبولوجيا، إنما الجميع مصهور في بوتقة الواقع وموارده اللذين وحدهما يحدّدان المجال".

تنطلق الباحثة من حزيران/ يونيو 1967، من خلال أحاديث مع بعض النخَب الطليعية وأصحاب التجارب عن زمن جمال عبد الناصر والناصرية والحرب الباردة، متناولةً الأحداث التي جرت في تلك الفترة، معبترةً أنَّ "الفقر 'النظري'، أو الوعي بهذا الفقر، عشية حرب حزيران/ يونيو، يعطي دفعًا للقراءة والكتابة، وقيمة خاصة لمن يتعامل معهما. الأحزاب القائمة كلّها تعاني إمّا فقرًا نظريًا وإمّا جمودًا نظرياً".

ثم تناولتْ "الشيعة في قلب اليسار"، وعرضت شهادات حول نشأة الأحزاب والقوى التقدّمية اليسارية ضمن ما سمّته "وفرة يسارية"، كما عرضت لتاريخ "حركة القوميّين العرب"، و"لبنان الاشتراكي"، والمجموعات المسيحية التقدُّمية.

وناقشت الكاتبةُ أيضاً تجارب عباس بيضون وحازم صاغية وأحمد الديراني ووضاح شرارة وفواز طرابلسي ووديع حمدان، وغيرهم في الحركة الحزبية ما بعد هزيمة 1967، وكيف كان وضع المثقّفين في "منظّمة العمل الشيوعي" و"الحزب الشيوعي اللبناني".

ولفتت البزري إلى دور ياسين الحافظ - الذي كان من بين الذين بكّروا في اعتماد الماركسية غير المسفْيتة، المقرونة بعروبة ذات جذور بعثية قديمة في لبنان، ونشأة حزب العمال الثوري العربي الذي لم يكن له جماهير بقدر ما كانت هناك حركة ثقافية التفّت حول شخص الحافظ نفسه.

وروت عن بعض المثقفين تجارب انتقالهم من تنظيم إلى آخر، كانتقال جوزيف سماحة ووليد نويهض وحازم صاغية من "الحزب السوري القومي" إلى "منظّمة العمل الشيوعي"، وانتقال جهاد الزين من "منظّمة العمل" إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي". وأوردت أيضًا شهادات عن مرحلة الكتيبة الطلابية في حركة فتح لكل من سعود المولى وطلال عتريسي وطلال طعمة.

كما أفردت المؤلّفة فصلًا كاملًا لشهادات عن الفلسطينيين وحضورهم في لبنان، ودور الحركة الوطنية في رفع مستوى المواجهة.

الصورة
يساريون لبنانيون في زمنهم - القسم الثقافي

ووجدت البزري - كما استقت من شهادات أحمد بيضون - وغيره أن "الطبقات اللبنانية مربوطة بطوائفها، والسوسيولوجيا، مهما تكن درجات الماركسية المعتمدة لديها، لا تستطيع إشاحة النظر عن الترابط بين الطائفة والطبقة". ولذلك كانت تتساءل عن الحرب اللبنانية وسبب قيامها وحتميتها، وتتنقل بين آراء سمير فرنجية وسامي ذبيان وعباس بيضون وغيرهم، ما بين قياديي أحزاب وكتاب، وحركيين شباب يوم اندلاع الحرب، مثل محمد بلّوط وزياد صعب وبلال خبيز وغيرهم.

ثم ناقشت في فصل آخر "الثورة الإسلامية في إيران"، وكيف انتقل كثير من الشيعة إلى الالتحاق بالكتيبة الطلابية لـ"فتح"، ومن ثم اهتمامهم بما يقوله الإمام موسى الصدر عشية الثورة الإيرانية. فقد ترك هؤلاء تنظيماتهم اليسارية والاشتراكية والتحقوا بالكتيبة الطلابية، وكان ياسر عرفات قد ذهب إلى إيران وزار الخميني؛ ما دعَّم موقفهم. وبالنتيجة أصبح تأسيس "حركة أمل" و"حزب الله" في ما بعد مبررًا في بيئة "جنوبية" أرادت أن يكون لها دور خاص في المواجهة. فكيف إذا طرحت الصراع العربي - الإسرائيلي من ساحة الجنوب؟ وقد أخذت شهادات طلال عتريسي وسعود المولى ووليد نويهض وغيرهم في هذا السياق.

بعد ذلك، توضّح المؤلّفة بقراءة سياسية موثّقة بشهادات حاضرين لحظةَ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، وقد دخلت في تفاصيل الكلام الشعبي حينما اضطرّ الفلسطينيون إلى ترك مواقعهم، وثكناتهم، وكيف تمّ ترحيلهم خارج لبنان، ثم دور النظام السوري في تعطيل منظومة الدفاع الجوّي، التي كان في إمكانها التصدّي لطيران العدو، إضافةً إلى منع المقاتلين والمدربين من دخول لبنان عبر حدودها. ثم تحدّثت عن حل الحركة الوطنية ومؤسساتها، وأوردت آراء كل من جورج حاوي ومحسن إبراهيم ووليد جنبلاط.

وتطرّقت بعد ذلك إلى نشأة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول"، وتباين الآراء حول بيانها التأسيسي، بين "الحزب الشيوعي" و"منظّمة العمل".

وتناولت أيضاً حملة الاغتيالات التي حصلت واستهدفت المفكرين والكتاب من حسين مروة إلى مهدي عامل وغيرهما، وأوضحت بالشهادات آراء المعاصرين لتلك الحوادث، واتهامهم "الظلاميين" بتنفيذ هذه الاغتيالات. هذا إضافةً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتداعيات ذلك على حركة اليسار اللبناني والعربي كلّه. ولم تنسَ البزري في تحليلها وربطها الأحداث أن تورد ما جرى في الصين بعد ماو تسي تونغ والحرب الصينية - الفيتنامية، وأثر ذلك في الذهنية النضالية اليسارية.

يتساءل الكتاب: أين هم اليساريون عشية الثورة السورية وفي أثنائها؟

وعن المؤتمر السادس لـ"الحزب الشيوعي" (1992)، تذكُر البزري شهادات نديم عبد الصمد وجورج البطل وكريم مروة وزياد صعب وغسان الرفاعي ويوسف مرتضى وحسام عيتاني، وتباين آرائهم حول التحول الديمقراطي الواجب داخل الحزب، وكيفية التعامل مع الواقع اللبناني الجديد في ظل الوجود السوري. وأوردت المؤلفة أيضًا رأياً لفارس اشتي يقارن فيه بين المؤتمرَين الثاني والسادس؛ بين خيار الكفاح المسلح والديمقراطية، حيث يعتبر اشتي أن في الخيار الثاني تخلّياً عن المنطلقات النظرية التي قام عليها الحزب.

وفي الفصل الحادي عشر، تعرض البزري آراء بعض الكتّاب في ما جرى على صعيد الصراع العربي - الإسرائيلي؛ إذ تباينت المواقف من أوسلو، مثل ما جرى بين حازم صاغية وفيصل جلول، وأوردت أيضًا ما جرى بعد اتفاق الطائف من تدجين للقوى السياسية، وقمع لكل المعارضين للوجود السوري، خاصّةً أن النظام السوري أصبح مرتاحاً إقليمياً بعد هزيمة غريمه البعثي في العراق، فالسوري ساند التحالف الدولي ضد العراق، وصار مرضيّاً عنه أميركياً، وبالنتيجة يفعل ما يريد في لبنان.

في الفصل الثاني عشر، "الرحيل والترحيل وما بعدهما"، تُعاين البزري لحظة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وموت حافظ الأسد وتطور الحركة المعارضة للوجود السوري، والمواقف المسيحية المعتدلة التي بدأت تعارض الوجود السوري، وما تلا ذلك من اجتماع شخصيات يسارية وشيوعية للبحث في توحيد المواقف. لكن الانفصال كان سيّد الموقف.

تُشير الكتابة هنا إلى أنّ سمير قصير في كتابيه: "عسكر على مين؟ لبنان الجمهورية المفقودة"، و"ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق"، يناقض تماماً مواقف رفيقه السابق جوزيف سماحة، الذي صب في الطرف الآخر الممانع المؤيد لحزب الله وسورية. وأشارت إلى نشأة بعض التنظيمات اليسارية كـ "اليسار الديمقراطي"، ونادي اليسار وغيرها، إثر فشل الجهود في توحيد القوى اليسارية. كما أن جوزيف سماحة وإبراهيم الأمين، مثلاً، أسّسا جريدة "الأخبار"، ليكتبا ويدعما موقفهما الممانع بكلّ ارتياح، من دون صدّ من أحد.

وتعرض البزري أيضاً التباين في الرأي حول المكان السياسي للحزب الشيوعي، هل مع 14 آذار أم مع 8 آذار؟ وخاصّةً بعد سلسلة الاغتيالات التي حصلت، ومن ضمنها اغتيال الأمين العام السابق للحزب جورج حاوي، وتعرض الاختلافات التي حصلت والانشقاقات، وما يسمى حركة الإنقاذ. وهذا كله من خلال شهادات الأعضاء الفاعلين في الحزب الشيوعي أو المفصولين أو المؤسسين لحركة الإنقاذ، كمحمد علي مقلد وغيره.

وتستكمل في وصفها للتفاعل مع حرب تمّوز/ يوليو في عام 2006 من جهة المثقّفين اليساريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، ونذكر على سبيل المثال آراء منى فياض، المنتقدة لحزب الله وسلوكاته. وكذلك هجمة أيار/ مايو 2008 التي نفذها حزب الله على بيروت بعد قرار وزارة الاتصالات بقطع شبكته الخاصة، كذلك إن التنبيه من هيمنة الحزب ودوره في المرحلة اللاحقة الذي يشي بالهيمنة، هو الذي حذرت منه أقلام بعض اليساريين.

وفي الفصل الخامس عشر والأخير، تطرح البزري سؤالها المهمّ: أين هم اليساريون عشية الثورة السورية وفي أثنائها؟ وقد أوردت شهادات لكمال حمدان عن تململ كاد يحدث خضةً كبيرة داخل "الحزب الشيوعي"، إثر مشاركته إلى جانب حزب الله في الحرب السورية، بحجة قتال التكفيريين. في هذه الأثناء، أو بُعيدها، كان كريم مروة، القيادي في "الحزب الشيوعي اللبناني"، يصدر مشاريع لتجديد اليسار اللبناني، و"البحث عن مستقبل جديد وواقعي لليسار في عالمنا العربي"، بغية "خروج اليسار من أزمته الراهنة"، فيطرح "السؤال الكبير" عن "الأسباب التي قادت جميع هذه الثورات إلى الفشل". أمّا شروط هذا التجديد، واستنادًا إلى نصوص ماركس وإنغلز وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي، فهي أن "يبادر أهل اليسار إلى قراءة موضوعية لتاريخ اليسار القديم"، وأن "يقرأ أهل اليسار بدقة سمات العالم المعاصر بكلّ مكوناته".

ومن جهة أخرى، تشير المؤلّفة إلى أن محمد علي مقلّد في كتابه "الشيعية السياسية"، الصادر في العام الثاني للثورة السورية، يتناول الموضوع من زوايا يرى أنها الأخطر. وهو يرى أنّ الشيعية السياسية "كمثيلاتها، المارونية والسنّية، تستند إلى قوة ذات تركيبة طائفية، بل مذهبية، لكنها ليست مشروعًا طائفيًا، بل مشروع سياسي حزبي فئوي يقوم على المحاصصة، ولا يستطيع، شأنه في ذلك شأن سواه، أن يرجح حصته في السلطة والثروة الوطنية إلا إذا استقوى بقوة خارجية". ويتوقف مقلد عند محطة الوصاية السورية: ويرى أنه في ظلّها نمت الشيعية السياسية، حيث منحها النظام السوري "رعاية خاصة"، فأدّت "دوراً مزدوجاً: استكمال الدفاع عن مصالح النظام السوري من داخل السلطة [...] والإمعان في تخريب بنية الدولة تحت ستار الدفاع عن المصالح الشيعية، وكانت الأولوية فيها إبداء الطاعة والولاء للنظام السوري".

وتسلّط المؤلّفة الضوء على مبادرات كمجموعة "كلمن" ومجلّة "بدايات" التي يقودها فوّاز طرابلسي، وغيرها، ممّن يطرح منظاراً عربياً ديمقراطياً، ويقرأ الواقع استناداً إلى هذه الثورات. كما تذكر مواقف عدد من الكتّاب والصحافيين الذين تناولوا مجريات الثورة السورية.

وفي الخاتمة تورد البزري هذه الجدليات والتباينات والانتقالات التي رافقت حركة اليسار، وصنعت المواقف المراوحة بين الأسلمة والعلمنة، والعروبة والوطنية والماركسية، وكلّ هذه الشعارات التي شكّلت الخلفية الثقافية لأيّ خطاب سياسي ممكن أن يصدر به أيّ مثقفٍ انضوى في هذا الحراك اليساري.

يُذكَر أنّ دلال البزري كاتبة وباحثة لبنانية حاصلة على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، صدر لها عددٌ من الكتب باللغتين العربية والفرنسية؛ من بينها: "مصر ضدّ مصر"، و"مصر التي في خاطري"، و"سنوات السعادة الثورية"، و"السياسة أقوى من الحداثة"، و"غرامشي في الديوانية"، و"دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)".

المساهمون