استمع إلى الملخص
- ساهمت المعركة في تجديد الوعي الثقافي بالقضية الفلسطينية، حيث استعادت مفردات مثل "التحدي" و"الصمود" دلالاتها الحقيقية، ودحضت السرديات الثقافية المضللة، مما أبرز التحام الشعب الفلسطيني بمقاومته.
- أصبحت معركة غزة وأبطالها أيقونات في الثقافة الشعبية العربية، مذكّرة بالمعاني الحقيقية للمقاومة والتحدي، مما يعزز وحدة الشعوب العربية في مواجهة التحديات المشتركة.
لم يقتصر النّصر الذي حقّقته غزّة بطوفانها، على الإنجازات العسكرية للمقاومة التي أجمع الخبراء العسكريون طيلة 470 يوماً من الحرب على كونها دروساً إعجازية ستدخل مقرّرات الأكاديميات الحربية على غرار معارك كبرى في التاريخ الحديث كـ"ديان بيان فو" في فيتنام (1954)، و"معركة الجزائر" (1956 ـ 1957). هذه الأخيرة بالرغم من أنها أسفرت عن استشهاد أبرز قادة ثورة التحرير الجزائرية على غرار العربي بن مهيدي وعلي لابوانت، واعتقال 40% من رجال حَيّ القصبة بحسب ما تُورده المراجع التاريخية، وممارسة عمليات التعذيب الممنهج عليهم، حيث جرت مأسسة التعذيب بين قوات المظليّين الفرنسية وقتها في عمليات الاستنطاق. إلا أنها كانت أيضاً المعركة التي شكّلت انعطافةً كبرى في الوعي العالمي حيال ممارسات المؤسسة الاستعمارية الفرنسية. ليتواصل بعدها النضال ضدّ الاستعمار بزخم أكبر وتتحرّر الجزائر بأكملها بعد خمس سنوات من انتهاء معركةٍ صنّفها القادة العسكريون حينها "نصراً" فرنسياً، على اعتبار الدمار الواسع الذي خلّفته العمليات الفرنسية الدامية في القصبة وما اعتُبر حينها قضاءً على أهمّ قادة الثورة الجزائرية.
والواقع أنّ درس "معركة الجزائر" علّمنا أنّ النصر في الحروب لا يُقاس بحجم الخسائر البشرية والدمار الذي تخلّفه الآلة العسكرية، بل بالشحذ المعنوي التي تضخه المعارك الكبرى في عروق شعوبها، والإنجازات التي تُحقّقها على الساحة الدولية. وهكذا أعادت معركة "طوفان الأقصى" القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي بعدما كادت أن تدخل برّاد القضايا السياسية الميّتة، وأعادت فلسطين والمطالب العادلة لشعبها إلى قلب النقاش العام ومعه الأولوية في جدول أعمال زعماء العالم.
دحضت الصور من غزة أوّلاً بأول سرديات التضليل الثقافي
ولم يغب التماهي بين النضال الفلسطيني وثورات التحرّر التاريخية الكبرى عن خطاب المحلّلين السياسيين في الغرب خلال الأشهر الأخيرة، وهكذا ذكّر الأكاديمي الإيطالي أليساندرو أورسيني ومدير يومية Sicurezza Internazionale رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في أوج معركة غزّة بأنّ المقاومين الفلسطينيّين "لا يختلفون عن مُناضلي ثورة التحرير الجزائرية".
وكانت الجزائر وكلّ الدّول الداعمة للنضال الفلسطيني حاضرة ضمن أبرز الإصدارات الإيطالية التي رافقت الحرب على غزّة، لا سيما في كتاب الصحافي الإيطالي ماركو ترافاليو "إسرائيل والفلسطينيون باختصار" (2023) حيث ذكّر مدير يومية Il Fatto Quotidiano بالموقف المركزي لقطر والجزائر في دعم المقاومة الفلسطينية، وكذا الكاتب والصحافي اليهودي الإيطالي البارز غاد ليرنر في كتابه "غزّة ـ كُره وحُبّ لإسرائيل" (2024)، وفيه أعلن ليرنر بعد أشهُر قليلة فقط من اندلاع الطوفان عن انتصار سياسي مُبين للسردية الفلسطينية "بدعم دولي من إيران وقطر وتركيا والجزائر"، وأوضح ليرنر في فصل بعنوان "حماس: العدوّ الكامل"، أن حركة المقاومة الإسلامية أبانت عن حنكة سياسية ملفتة في إدارة المعركة مؤكِّداً أن "حماس طوّرت أدواتها الخطابية وتعلّمت بدهاء كيف تُمارس سياسة التحالفات". وذهب الصحافي الإيطالي إلى اعتبار الأداء الإعلامي الفلسطيني خلال معركة الطوفان "أشبه بالسحر".
ولم يتوقّف النصر الفلسطيني في غزّة على الشقّ العسكري والسياسي والإعلامي بل امتدّ إلى تجديد الوعي الثقافي بالقضية الفلسطينية، وذلك حين بثّ الطوفان الحياة في صور دلالية ارتبطت طيلة عقود بسياق النضال الفلسطيني على غرار مفردات "التحدّي"، و"الصمود"، و"المقاومة"، وكلّها مفردات كانت تندرج قبل سنة وأربعة أشهر من اليوم في مساحة "الإشباع الدلالي" (Semantic satiation)، أي ضمن تلك الظاهرة الناجمة عن التكرار الفارغ للكلمات والتي وصّفها ليون جاكوبفيتس بأنها ظاهرة نفسية ترتبط بتفريغ مفردة ما أو عبارة من معناها لدى المتلقّي جرّاء تكرارها الآلي وعدم توظيفها على نحو أدائي فعّال، لتتحوّل إلى محض ظاهرة صوتية لا تحمل أي دلالة.
استعادت اللغة السياسية جوهرها وتخلّصت من ظواهرها الصوتية
وأسوأ من مصير العبارات التي كانت قد انتهت في سلّة الإشباع الدلالي، كلمة مفتاحية مرتبطة بالقضية الفلسطينية كـ"الصمود" وقعت في انزياحات حادّة انحرفت بها كلّيّاً عن دلالتها الأُولى، وذلك بسبب تفعيلها ضمن سياقات معاكسة لما يقتضيه معناها الأصلي. وهكذا أحصت الساحة الثقافية في بلد كإيطاليا في السنوات الأخيرة إصدارات أدبية وفكرية متنوّعة وعدداً غير محدود من المُلتقيات والفعاليات الثقافية المرتبطة بالقضية الفلسطينية عُقدت جميعها تحت عناوين "الصمود" و"المقاومة" في حين أنها كانت تتبنّى لغة سياسية صريحة تروّج لخطابات الهجرة واللجوء، بل أبعد من ذلك الترويج لمفردات الاستسلام والتساكُن مع الاستعمار، ونبذ المقاومة التي تُشرّعها المواثيق الدولية للشعوب المحتلّة في الدفاع عن الأرض ووصفها بـ"العنفية".
وكان النقد الأدبي الأوروبي ما بعد أوسلو قد طوّر "هيرمينوطيقا" خاصة بالأدب الفلسطيني تعمد إلى تأويل النصوص الفلسطينية، وقولبتها على هوى السردية الغربية بما يتوافق وبلاغات الاستكانة ولغة "الضحيّة" (victimhood)، وتحييد أي تأويل فنّي ينطوي على أيّ تبجيل للعمل المقاوم بمعناه الكلاسيكي. وقد ظهر هذا التوجّه خلال الحرب الأخيرة من خلال نشر يوميّات من غزّة على صحف متنوّعة أبرزها "الكورييري ديلا سيرا" و"لا ريبوبليكا"، حاولت خلق شروخ بين المقاومة وحاضنتها الشعبية من خلال نصوص ظهرت عمليات تزوير صارخة في ترجمتها بما يخدم سردية انسلاخ الغزيّين عن مقاومتهم.
إلا أنه وبالرغم من عمليات التضليل الثقافية المُمنهجة، التي جرى حشدُها خلال حرب غزّة (وما سبقها) للتشويش على النضال الفلسطيني، كانت الصور التي تأتي من داخل القطاع تدحض أوّلاً بأول سرديات ثقافية جرى نحتُها بتُؤدة طيلة سنوات، وقد تجلّى ذلك في يوم النصر من خلال هتافات عفوية وأهازيج من أهل غزّة سجّلتها وسائل الإعلام على المباشر بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، وظهور المُقاومين بالزّيّ العسكري الكامل وتدافُع أهل غزّة لتقبيل رؤوسهم، ما أبان عن التحام للشعب الفلسطيني بمقاومته والتصاقه بالأرض: "جنّة جنّة..."، و"عز الدين... تحية للكتائب"، وتكبيرات وتهليل... وتمجيد في "الشباب الحلوين"، و"سوف نبقى هنا"، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي "عبثاً تحاول لا فناء لثائر"، ليأتي استحضار أناشيد وأبيات لشعراء عرب من المغرب العربي إلى الخليج وانجدالها بالأهازيج التراثية الفلسطينية رسالة من قلب غزّة للتدليل على وحدة الإحساس والنبض العربي.
وهكذا تحوّل أبطال معركة غزّة التاريخية، بمقاتليهم، وصحافييهم، وكوادرهم الطبّية، وكلّ غزّيّ أبى الرحيل إلى أيقونات في الثقافة الشعبية العربية. أبطالٌ لا يعرفون كيف تُستعاد الأرض فقط، بل كيف تُستعاد اللغة من غربتها، مذكّرين العالَم بالمعاني الحقّة للمقاومة، والتحدّي، والعنفوان، والصمود الأسطوري. مفردات كادت تدخُل قبل الطوفان في عِداد اللغات الميّتة، ليكتشف العالَم بعد ملحمة غزّة أنها لا تزال تنبض.
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا