دافيد لويس.. البوتينية بوصفها نموذجاً روسيّاً للتسلُّطية الجديدة

11 يناير 2025
عن الصراع بين الديمقراطية والتسلّطية بعد انتهاء الحرب الباردة
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يستعرض الكتاب "التسلُّطية الجديدة في روسيا" للكاتب ديفيد لويس تطور السياسة الروسية بعد الحرب الباردة، مركزًا على "البوتينية" كنظام يجمع بين الديمقراطية والتسلطية، معززًا القومية والسيادة الداخلية.
- يوضح الكتاب كيف أصبحت روسيا نموذجًا للأنظمة المستبدة غير الليبرالية، متبنية سياسات خارجية عدوانية مثل ضم القرم، كرد فعل على الفوضى الاقتصادية والانقسامات الداخلية.
- يبرز الكتاب التناقض بين التصور الأخلاقي لروسيا والواقع القمعي، مشيرًا إلى التحديات التي تواجه "البوتينية" بسبب القمع الداخلي والفساد الاقتصادي.

ضمن سلسلة "ترجمان"، صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب بعنوان "التسلُّطية الجديدة في روسيا: بوتين وسياسة ضبط النظام"، تأليف ديفيد لويس، وترجمة عامر شيخوني، وهو مكوَّن من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة. يتناول الكتاب السياسة الروسية بعد الحرب الباردة ونهاية الحقبة السوفييتية، ويحتوي على قراءة موسّعة لأسباب ما سُميت ظاهرة "البوتينية"، وأسبابها والظروف التي أدّت إليها وممارساتها ونتائجها المتوقّعة، في قراءة جديدة لواقع سلطة في بلد كان يُكافح بعد مراحل من التهميش لإثبات نفسه من جديد. 

يتّخذ الكتاب، الواقع في 392 صفحة، من الصراع بين الديمقراطية والتسلّطية بعد انتهاء الحرب الباردة ومفاعيلها مجالاً للدراسة، حيث تُعتبَر روسيا "اللاسوفييتية" الرُّقعة الجغرافية الأكثر إثارة للجدل في هذا المضمار، وبخاصة مع نظام حالي أنشأه فلاديمير بوتين، رجل المخابرات العتيق، والسياسي المخضرم الذي عاش في حقبتين، وورث بلداً كان زعيم جمهوريات سوفييتية انفرط عقدها وهامت كلٌّ في وادٍ نتيجةَ سبعين سنة من التسلُّطية والقمع والديكتاتورية وأقلّ القليل من الديمقراطية، لكنه كافح بعناد حتى كرَّس نسخة جديدة من السياسات السلطوية باتت تُعرف بـ"البوتينية". 

تفكيك نظرة المحافظين الرُّوس الجديدة إلى الديمقراطية

ويعتبر المؤلّف أن فهم هذه الظاهرة صار ضروريّاً لاستيعاب أفضل للسياسة العالمية في ظل صعود أنظمة مستبدّة غير ليبرالية في أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا قد تكون تأثّرت بأنموذجها، وزيادة نشاط الحركات الإسلامية المتشدّدة في المنطقة العربية والحركات الشعبوية، اليسارية في أوروبا الشرقية واليمينية في الغرب، التي تجمّعت حول تصورات بديلة من النظامَين المحلي والدولي القائمَين، ورفضت قواعد دولية مثل حقوق الإنسان، ودعت إلى ترسيخ ثقافات قومية أو دينية.

يستطيع المتتبّع للسياسة الدولية الاطمئنان إلى نظرية تزعُّم روسيا - وإنْ غير المنظَّم وغير المعلَن - للتوجّه المضادّ للّيبرالية في عالم اليوم، وهي وإنْ تبنّت في عام 1991 جميع مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وسمحت بدور عالمي في سياستها الداخلية، كمراقبة الانتخابات والإصلاحات الاقتصادية... وغيرهما، إلّا أنها وجدت نفسها نتيجة لذلك بلداً محطَّماً اقتصاديّاً ويُعاني انقسامات داخلية جعلته يستسلم أمام التمرّد الشيشاني، في نظام عالمي قادته الولايات المتحدة الأميركية وتحولت روسيا في ظله مختبراً سياسيّاً.

يُبيِّن المؤلّف في التسلّطية الجديدة ملابسات دفع روسيا قسراً لتختار بين الفوضى وضبط النظام، وكيف أثّر ذلك في جنوحها من جديد نحو التسلّطية، التي لجأ المؤلّف لشرحها إلى كتابات المفكّر الألماني غير الليبرالي والمرتبط بالنازية والمعادي للسامية كارل شميت (1888 - 1985).

ويناقش المؤلف في كتابه بأسلوب سردي-تحليلي كتابات شميت، التي وُصفت في أوروبا والولايات المتحدة بـ"الأكثر إثارة للقلق" في القرن العشرين، ولا تزال حتى اليوم تُلهم المعارضين غير الليبراليّين في الحركات اليمينية العابرة للقوميات في الغرب، والتفكير السياسي المحافظ في روسيا، وعلى رأسه التسلّطيةُ "البوتينية" التي رأت في مقارباته السياسية حلّاً للأزمة الوجودية التي واجهتها أواخر التسعينيات.

يتناول شميت مبدأ السيادة لا بصفته مصطلحاً قانونياً، بل باعتباره اتخاذ قرارات تتعلّق بسيادة القانون متحرّرة من قيود الليبرالية ومن الأعراف والاتفاقات الدولية، وهو مفهوم استخدمه بوتين داخليّاً لحصر اتخاذ القرار بـ"الكرملين"، وفرض التسلّطية على المناطق والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والأقليات، وخارجيّاً لاستعادة المبادرة من الفاعلين الدوليين.

تمعّنٌ في طوباوية روسيا "الأخلاقية" التي تهاوت أمام السلوك السياسي

وبين حدَّي الديمقراطية والتعدّدية السياسية خرج تيّار المحافظين الروسي بمقاربة جديدة وعجيبة للديمقراطية، اعتبر بوتين نفسه بموجبها رئيساً وصل إلى السلطة ديمقراطيّاً، وأحاط نفسه بنُخبة من هؤلاء المحافظين الراديكاليين. ترى هذه المقاربة في التعدّدية السياسية تقويضاً للدولة، وأنها يجب أن تُدار بحذر ويسيطَر عليها، ربما لتأثّرهم - كما سلف القول - بشميت، الذي فرَّق بين "الليبرالية" و"الديمقراطية"، واقترح "ديمقراطية موجَّهة" أو "ديمقراطية سيادية"، وكلتاهما تتنافى مع الليبرالية وتطبَّق في روسيا الحديثة ديمقراطيةٌ على شاكلتهما، تضع الشعبَ في مواجهة المنتقدين، وتصف الأقلّيات بـ"الطابور الخامس" العميل للأجنبي؛ ما دفع بوتين لاعتقال أفراد من الأقلية الحاكمة بتُهم واهية، وقمع تمرّد الشيشان بكل قسوة، وفرض ثنائية في عمل القضاء بين الأحكام العادية و"المحاكمات غبّ الطلب" في القضايا السياسية.

مع التدخل الغربي في يوغسلافيا والعراق، وثورات أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان "الملوّنة"، ثم الربيع العربي، وتفرّد الولايات المتحدة بمعالجة أزمات العالم، ازدادت حدّة شعور روسيا بالتهميش، وتكوَّن لدى سياسييها تصوّرٌ فحواه أن رفع لواء العمل الإنساني والديمقراطية وحقوق الإنسان لدى الغرب ليس – وبمثل هذا قال شميت - سوى غطاء خبيث للسيطرة الأميركية، فتوسعوا في سياستهم الخارجية بعد عام 2005 في كسر القواعد، فضمّوا شبه جزيرة القرم وتدخلوا عسكريّاً في سورية، حتى حوّلوا السياسة الخارجية صراعاً عنيفاً مع "العولمة الليبرالية".

أما فكريّاً، فقد طرح المحافظون الروس أفكاراً مستحدثة في الحيّز المكاني لمواجهة "اللامكانية" الغربية المفتوحة، وسمّوها "العالم الروسي"، "التكامل الأوراسي"، "أوراسيا العظمى"، لتأكيد دور روسيا في فضاء عظيم مثل أوراسيا، وتطبيقاً لتصور شميت النظام العالمي "فضاءاتٍ عظمى".

كذلك يناقش دافيد لويس في كتابه تجليَ الفكر الأخلاقي الأرثوذكسي القديم للسياسة الروسية في تفكير المحافظين المعاصرين بتصوّر روسيا حصناً ضد الفوضى والاضطراب اللذين يصنعهما الغرب، وباتهام الليبرالية بعدم توافقها مع مسيرة التاريخ، في حين تقف روسيا "الأخلاقية" على الجانب الصحيح منه، إلا أن الكاتب يُظهر مناقضة الوقائع على الأرض هذا المنحى، مع تحول النظام السياسي الروسي نحو مزيد من القمع، وبروز الاستياء الشعبي، وعرقلة الاقتصاد بانتشار الفساد وانعدام الكفاءة، والسعي وراء الهيمنة والانغماس في صراع مع الجيران، حتى باتت سياسة اتباع نمط شميت في الحكم تهديدًا بتقويض النظام السياسي المعتمد على "البوتينية".

ديفيد ج. لويس هو أستاذ مشارك في قسم السياسة بـ"جامعة إكستر"، متخصص في العلاقات الدولية، مع تركيز إقليمي على روسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. نشر العديد من الدراسات حول صعود النُّظم غير الليبرالية والاستبدادية في السياسة العالمية، وكذلك حول التطورات السياسية في روسيا وأوراسيا. عمل مستشاراً لعدد من الحكومات، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية. من مؤلّفاته: "إغراءات الاستبداد في آسيا الوسطى" (2008).

أمّا عامر شيخوني فهو طبيب متخصّص بجراحة القلب في الولايات المتحدة الأميركية. مهتمّ بالكتابة والترجمة. له أربعة مؤلّفات، أبرزها: "قصة القلب كيف اكتشفه رجاله" (2017). وله 11 كتاباً مترجَماً من الإنكليزية إلى العربية في مجالات عدة؛ منها الرياضيات وعلم الأحياء وهندسة العمارة والتاريخ وعلم الاجتماع السياسي والموسيقى. حازت ترجمته كتاب "السرقة من المسلمين" جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي سنة 2022. نُشر له أيضاً ثلاثة كتب مترجمة من العربية إلى الإنكليزية، أبرزُها: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي.

المساهمون