استمع إلى الملخص
- أثرت الرأسمالية الحديثة على النسيج الثقافي والاجتماعي، مما أدى إلى تآكل القيم والحاجة إلى ثورة تعيد التوازن بين المادي والروحي.
- يعيش الكثيرون في اغتراب ثقافي واجتماعي، محاصرين بين ماضٍ ومستقبل غامض، مما يبرز الحاجة لإعادة التفكير في القيم الإنسانية الأساسية.
زمان، مع ظهور الرأسمالية الحديثة، أصبح الاقتصاد مستقلّاً عن المجتمع، عاد الإقطاعيون أسخم مما كانوا أيام الزمن الزراعي، بما ليس في الحسبان. ما أدى إلى ظهور ما نعرف ونخبر: "مجتمع السوق".
اليوم، مع ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والأتمتة، عاد الإقطاعيون الأواخر، أسخم مما كانوا بما ليس حتّى في الخيال. ما أدّى إلى ظهور ما نعرف ولم نخبر بعد: "مجتمع فقراء السوق"، على مستوى الكوكب.
ذلك السوق ذاتي التنظيم، القديم الذي كتب عنه عبد الوهّاب البياتي إحدى أولى قصائده "السوق القديم"، والذي كانت الطبيعة اخترعته لا الدولة، ولّى بلا رجعة: اليوم نحن أمام مليونيرات عابرين للقارات، وغداً سيتحوّل بعضهم إلى ترليونيرات، يفتحون السوق من شاشة الموبايل، ويبيعون بالسعر الذي يشاؤون، أمّا النواتج والتداعيات والمضاعفات، وباقي المسائل، فخلّيها على الله، كما قال يحيى حقي رحمه الله.
أقصد أن الناس سيكونون أجراء لا عمّالاً ولا موظفين. أجراء وفقراء بالأعم الأرجح، حيث ستختفي ذكريات الطبقة الوسطى بمراحلها الثلاث، ويشيع الفقر مع احتمالات الجوع، إن لم تعمل كل يوم.
سيجعلنا ترليونيرات المستقبل كائنات الضرورة، تماماً مثل زملائنا الحيوانات. ومع أن هذا أمر شِعري في جانب منه، إلا أنه وعرٌ وشاقٌّ ومرير على غالبية الخلق، من جانبٍ ثانٍ.
■■■
يا أيتها الحياة المُدارة التي تنفجر علينا من فوق: غمّان لا يحولان، عامٌّ وخاص. قلبي يقول إنَّ الرأسمالية ضغطت على المدن ونسيجها الثقافي والشعبي، مع أوّل ممر استخراجيٍّ كبير، كما حدث مع النفط.
قلبي يَألم من هذا وما يتبعه من التكسير الثقافي لكلّ ما سبق "أوسلو". ألا يجري الآن إجراء التكسير الثقافي للضغط على الجيوب المتبقية؟
إيه يا مدقّق الحقائق: المال لا يغيّرك. الحبُّ أو الصحة هي التي تغيّرك. الواقع سيكون أكثر حسماً من هلاوسك، أيها الاسترجاعي في هذا العام السحابي الفائق.
ألا يجري التكسير الثقافي للضغط على الجيوب المتبقيّة؟
إيه يا ناس هذه الحياة: دعونا نفعل ما لا يُفعل في الغرب: لقد شوّه ظلُ الليبرالية الجديدة سياسة انفصال الجسد عن الروح. عدم تدخل الثانية في سلوك الأول؛ مع الكثير من المادي يحكم سنام الأمور. نريد ثورياً يكسر قداسة البنوك. نريد ما يُفنى ولكنه في روح الأجيال باق.
ألا نقول وداعاً لحديقة القلب وسط الصحراء. أن ننزع عن الرساميل طابعها الفرجوي، المتخصّص في مجال الاحتفال والاستعراض. الهرب من كلّ لامع يُخفي ما هو فاجع. ألا يكون منّا أحد مُعيدي التفكير في المال وهو يخلدُ للنعاس. وهو يستيقظ، ويأكل ويُخرج، من أجل استكشاف العناصر الأكثر حميمية في الحياة، مطلق الحياة.
إيه أيّتها الحدود الجريحة التي تحدّث عنها سابقون، والندبة المفتوحة التي لم تتوقّف عن النزيف أبداً. ليش أوروبا وأميركا منطقة احتكاك تتسم بالعنصرية والعنف والظلم والفساد؟ إيه يا من يحيا ولا يحيا في زقاق ترابي على قمّة تل: في منزل متواضع جداً بناه الجد. وكان لديه حاكورة صغيرة. ثمَّ ركّبته الهلاوس فجاء القارة العجوز، دونما أي سلاح.
سوف تبكي على الضفة الثانية، لشدة ما تتذكّر ماضيك. سوف تحيا هنا في معزل، ضمن عيشة مزيّفة، ألفاً وياء. معارفك الأُوَل؟ سيكون هناك العديد من الأسماء التي ستنسى ذكرها، وحتى بني العائلة الممتدّة، سوف تتلعثم كثيراً كي تستحضرهم. سوف وسوف، وبصفتك كل شيء إلا راوياً، سوف تُظهر نفس المستوى من فعالية اللعثمة في كلّ مرة تعبر فيها الحدود بين زمن ولّى وغدٍ يأتي. ولسوف تعرف كل سنة جديداً: أن الأمل ليس كما قيل: سرد لا هوادة فيه للحياة بين ضفتين.
بل كل ما هو على الحدود، قصص تحبط وتبهظ. هذا هو.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا