خارج إطار الزمن .. لون يتذكر، حرف ينسى

05 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 07 نوفمبر 2025 - 12:37 (توقيت القدس)
من المعرض (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التجربة البصرية في معرض "خارج إطار الزمان": يبرز المعرض في غاليري الحوش للفنانين راشد دياب ونديم كوفي، حيث يتناولان مفهوم الزمن من خلال الفن، مع التركيز على اللون الأصفر والرموز.

- الارتباط بالنصوص الأدبية: يستلهم المعرض من نصوص مثل "خارج الوقت" و"الساعة والإنسان"، مما يعكس تجربة الفلسطينيين تحت الاحتلال، حيث يتحول الزمن إلى عنصر بصري يعبر عن الوجود والهوية.

- التقنيات الفنية والتعبير عن الزمن: يستخدم دياب اللون الأصفر كرمز للضوء، بينما يعتمد كوفي على الحروف والرموز، مما يخلق تجربة فنية غنية ومعقدة تتناول مفهوم الزمن والهوية.

يبدو اللون في معرض "خارج إطار الزمان" كأنّما يخوض مفاوضة متوترة مع الزمان، لا بوصفه تعاقباً، بل جداراً تطرقه الذاكرة لتعيد تشكيل الحكاية في هيئة بصرية. فالمعرض المشترك في غاليري الحوش الذي افتتح الجمعة الماضي، للفنانين السوداني راشد دياب والعراقي نديم كوفي ينفتح على النص الغائب الحاضر، نص الفلسطينية عدنية شبلي "خارج الوقت"، الذي استشعر استعمار الزمان كما استشعرت سميرة عزام قبله استعمار المكان والذات في قصصها.

تقترح القيّمة جمانة عباس هذه الوشيجة التي تربط بين السرد النصي (غير الموجود في المكان) والنص المعاين أمامنا، لدى تعرّفها إلى ما كتبته عدنية شبلي وفيه التقطت بحساسية الفلسطيني المفرطة استعمار الزمان وتوقف ساعة الفرد في مكانه، ولحاقه بجماعته المطرودة ليقيس معها زمنه الغريب بساعة جديدة. إنه خارج الزمان وعليه أن يكون جديراً بكونه ضحية. عليه ألا يمسي ضحية فاشلة.

تقترح الفكرة أن نكون في عام 1963 حين كتبت سميرة عزام (1927-1967) قصتها القصيرة "الساعة والإنسان"، أو يمكن أن نكون في يناير/ كانون الثاني 2015 حين نشرت عدنية شبلي (1974) نصها "خارج الوقت" في صحيفة "العربي الجديد".

ما تقوم عليه التجربة البصرية في الغاليري هو مباشرة اختبار الفن للزمن وهو يتشكل من جديد. هنا يلتقي راشد دياب ونديم كوفي، فنانان عربيان خبرا فكرة الوطن على الأرض مثلما خبرا الحروب التي تقع كل مرة دون أن نأخذ حذرنا منها. أحدهما قارب الوجود من باب الضوء والثاني مدّ يده إلى اللغة.

راشد دياب (1957) لا يرسم الأشياء كما تُرى، بل كما تتذكر نفسها بعد غيابها. حين يملأ السطح بالأصفر، كأنه يستعيد آخر لحظة للضوء قبل أن يبهت. وطوال الرؤية لا بد أن ينخطف المشاهد إلى الأجساد التي تمشي وتختفي، هذه صحراء، هذه مفازة. هذا اللون الأصعب الذي يحسب حسابه الفنانون بسبب مزاجيته وعدم تسامحه مع الخطأ، هو أفق اللوحة الصحراوية في لوحات دياب هذه المرة، هو الملعب الروحي لهذا الفنان ابن الجيل الثاني لمؤسسي الحداثة التشكيلية في السودان. إنها مقامرته للعبور، وفرصته الوحيدة للنجاة. والأصفر في عالمه ليس بهجة ولا زينة. هو امتحان للصدق، وتذكير دائم بأن الضوء لا يمنح بلا ثمن. 

تلك اللوحة التي يسيطر عليها الأصفر ليست صحراء فقط، إنها امتحان للحياة تحت التهديد. ثمة امرأة تحمل طفلاً وتمشي نحو مجهول مفتوح. هذه تدخل للتو من إطار اللوحة الأسفل.

ليست أرضاً هذه الصحراء- المفازة. هي زمن مجرد، يضل عن معناه. بين الاسم والحقيقة. ويأتي دور راشد دياب في تحويل المشهد إلى سؤال: هل العبور خلاص، أم تكرار للعطش؟

الساعة والإنسان

بعد نشر عدنية شبلي نصها "خارج الوقت" بالعربية، وجدناه بعينه وهو يصبح مقدمة لمختارات قصصية من مجموعات سميرة عزام صدرت باللغة الإنكليزية عام 2022 عن دار إنترلينك للنشر، في الولايات المتحدة، ترجمتها المصرية رانيا عبد الرحمن.

فنانان عربيان خبرا فكرة الوطن على الأرض مثلما خبرا الحروب
 

في ذلك النص الذي يستعيد تجربة الكاتبة شبلي داخل مطار بن غوريون، تتوقف ساعة يدها، لحظة احتجازها واستجوابها لساعات طويلة. لم يكن تعطل الساعة صدفة ميكانيكية، انكساراً للزمن نفسه تحت سلطة المراقبة، وتحول الانتظار إلى فراغ معلق خارج التاريخ.

قصة "الساعة والإنسان" لا تفعل شيئاً سوى تكرار فعل الرجل العجوز كل فجر يوم، يدق الأبواب ليستيقظ الفلسطينيون الموظفون فيلحقوا القطار إلى وظائفهم. هذا التكرار، هو ولادة المعنى الذي يؤكد الجوهر ولا ينسخه.

رسام الحروف

حين نعاين لوحات نديم كوفي (1962) وتكراره الواعي للرموز، نعرف أننا في طريق آخر، يؤكد المعنى ويجترح وسيلة أخرى لفهم أن تكون خارج إطار الزمان.

طريق يبدأ بالحرف وينتهي عند الحلم. هو لا يخط الجملة ليزينها، بل يضعها في اختبار الوجود. يقول لـ"العربي الجديد": "لست خطاطاً، ولا حروفياً" "إنما أنا أرسم الحروف".

يستخدم كوفي القالب الطباعي، الستانسل. يمرر الزيت على السطح، ويترك الحروف تمارس مصيرها وحدها. وبالنسبة إليه كل نسخة أصل، وفي ذلك حكمة صغيرة عن الإنسان الذي يعبّر عن ذاته في النسخ المتكررة.

فبينما تتجسد تجربة عدنية شبلي في توقف الزمن وانكسار السياق، يقدم كوفي الوجه الآخر من المسألة: اضطراب اللغة نفسها حين تفقد إيقاعها الزمني.

والحروف هنا تتحرك في دوائر، تتكرر وتتعثر، كما لو كانت عقارب ساعة تحاول العمل بعدما تعطلت. هذه الآلية البصرية التي يعتمدها الفنان، من خلال نظام برمجي ينتج جُملاً جديدة من مفردات محدودة، لا تصنع نصوصاً بقدر ما تعيد تمثيل الزمن في صورته المفككة.

يكتمل مثلث روحي خارج الزمان: هذا العراقي نديم كوفي، برفقة راشد دياب السوداني وعدنية شبلي الفلسطينية. دياب يشتغل على العبور الجسدي في الصحراء، حيث يتحول اللون إلى أثر لحياة على الحافة.