"حيض اللؤلؤ" لـ محمد الرزاز: أصوات الذين اختفت حضاراتهم
استمع إلى الملخص
- تستكشف القصص الصراع بين الإرادة الإنسانية وقوى الاستعمار، وتدمج بين الأسطورة والواقع، مما يتيح للقارئ الانغماس في عوالم السكان الأصليين السحرية والأسطورية.
- يؤكد الكاتب على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي للشعوب الأصلية، مستندًا إلى تجاربه مع قبائل المايا والأرواكوس والكوجي، ويهدي القصص إلى ضحايا القمع والاستبداد.
تحمل قصص "حيض اللؤلؤ"، للكاتب المصري محمد الرزاز، الصادرة عن "كتب خان"، دعوةً مباشرة لقراءة التاريخ من العمق وصولًا إلى السطح. عبر نصوصه التي تصوّر عالماً يلفّه الغموض، وتحيط به العواصف والأعاصير الواقعية والأسطورية، يفتح الرزاز للقارئ نافذة واسعة لرؤية السكان الأصليين في الأميركتين، حيث تتداخل الحكايات الموروثة من جيل إلى جيل مع الدمار الذي خلّفه الغزو الإسباني.
في القصص مواجهة مباشرة مع فكرة الاستعمار بشكل مطلق، وآلياته المتكرّرة في القضاء على التراث الثقافي والفكري للشعوب التي تُراد السيطرة على أراضيها. القصة التي تحمل عنوان المجموعة، تحكي كيف أجبرَ الإسبانُ الغواصين في مدينة قادش في فنزويلا، على الوصول إلى أعماق سحيقة في البحار ولفترات أطول، من أجل صيد اللؤلؤ، وكانت العواقب كارثية، حين صار الغواصون يلاقون حتفهم واحدًا تلو الآخر، حيث يقول: "ادعى الإسبان أنّها القروش قد افترست أحد الغواصين، أو أنها دماء المحارات التي تحيضُ مثل النساء، إلا أن أبي كان يعلم حقيقة انفجار أعضاء الجسد بسبب ضغط الماء. وهذا تمامًا ما حدث له بعد أيام".
لا تُروى القصص من وجهة نظر المنتصرين، بل عبر أصوات الذين اختفت حضاراتهم، ولم يبقَ منهم سوى صدى يتردد عبر المسافات، ليحكي قصة مقاومتهم للمستعمر. يرى المؤلف أنَّ القارات جميعها عانت من ويلات الاستعمار الأوروبي، سواء في أميركا اللاتينية أو غابات أفريقيا وسهول آسيا وسواحل البحر الكاريبي. فقد زحف الإسبان والبرتغاليون وغيرهم من المحتلين نحو أراضٍ بعيدة، أبادوا حضارات مبهرة ومدنًا عامرة وثقافات متفردة، حينها كانت الأرض تئن تحت وطأة الرياح العاتية، وصدى صرخات الكائنات المقدسة، كما يمكن ملاحظة ذلك في قصة "معمدان الشمس"، مع الطفلة التي أراد لها والدها أن تحفظ أسماء الشمس والقمر والنجوم والعشب، بلغة بلادها، مدركًا أنّ المستعمر القادم سوف يمحي هويتها، ويغيّر مسميات الأشياء، وهذا ما حدث مع الراوية، حيث تكتشف بعد أعوام طويلة أنّها لم تعد تذكر كل ما طلب منها والدها عدم نسيانه، وأنه لم يظل من لغتها الأصلية سوى خيط شاحب يلوح في الذاكرة البعيدة.
تعكس صراعات الإنسان مع قوى تفوقه بين الأسطورة والواقع
لا تقتصر هذه القصص على الرموز والاستعارات، بل تتجاوزها إلى عمق الروح وإلى نداء الأرض الأم، وتستمر في التردّد عبر الأجيال، كما في قصة "فضاء سحيق"، التي تنقل أصواتًا لم تصل إلى مسامع الغزاة. هذه النصوص ليست مجرد شهادات من الماضي، بل هي رحلة عبر الزمان والمكان، تكشف عن تحيّز المنتصر ضدّ المهزوم، ووصمه بالتخلّف، وهذا يمكن العثور عليه في خطاب القوى العظمى كلّها، حين تتحدّث عن الشعوب الأضعف التي تستولي على خيراتها.
وبالقدر الذي تحكي فيه القصص عن الألم العميق الذي عاشته الشعوب الأصلية، فإنها تكشف أيضًا عن الجانب السحري والأسطوري الخفي من عالمهم، كما في قصة "يمشي بيننا"، التي تتناول حكاية الإله كيتزالكواتل، ويُمثل الثعبان صاحب الريش، الذي كان من البشر في يوم ما.
من خلال هذه الأساطير الحيّة، يجد القارئ نفسه في عوالم لم تُكتب بعد، تتداخل فيها مشاعر الحبّ والأمل مع الفقدان، والرغبة في إماطة اللثام عن حقائق عتيقة. في كل قصة، تنعكس صراعات الإنسان مع قوى تفوقه، بين الأسطورة والواقع، في معركة لا تنتهي بين الإرادة والقدر. ولكن الكاتب يؤكد فكرة زوال كل حضارة يعلو شأنها فتصل إلى قمة المجد، من خلال شخصية الزعيم في قصة "الحق يتكلم"، يقول: "ليست هناك حقيقة في هذا الكون سوى الزوال"، لذا فكرة الحروب والإبادة والنهايات، ليست إلا سيرورة من دورة الحياة ككل، محكومة بالوصول إلى الذرى، ثم العودة إلى التراب مرة أخرى.
يختم الكاتب قصصه بكلمة أخيرة، عن أسباب اختياره لهذا الموضوع، مؤكّدًا أنّه في زياراته لأميركا الوسطى والجنوبية أسعده الحظ بقضاء أيام وليالٍ مع أفراد وعائلات من قبائل المايا والأرواكوس والكوجي، إضافة إلى الكثيرين من الشعوب الأصلية في المكسيك والإكوادور ممّن يهتمون بالحفاظ على تقاليدهم ولغاتهم وعناصر طبيعتهم، لذا هو يهدي هذه القصص إلى ضحايا القمع والاستبداد في كلّ مكان.
قد يكون أبرز ما يميّز قصص الكتاب أنها تتناول الاستعمار الإسباني في أميركا الجنوبية وتقدم جانبًا فنيًا وأسطوريًا مشوّقًا ومجهولًا، كما أنّها تحمل انعكاسًا للواقع العربي في علاقاته مع المحتل، سواء في الماضي أو في الواقع المعاصر.
* روائية وناقدة لبنانية مصرية