حلب ونهرها.. رحلة استكشاف السمعة السيئة لـ "قويق"

حلب ونهرها.. رحلة استكشاف السمعة السيئة لـ "قويق"

28 مايو 2022
عانت حلب من شح المياه (Getty)
+ الخط -

يكشف تقرير رِحلي لرئيس بلدية حلب أواخر العصر العثماني، مرعي باشا الملاح، جوانب مجهولة وخفية عن مشكلة نهر حلب الذي يسمى نهر قويق، ويحظى بسمعة سيئة لدى الحلبيين، رغم أن المدينة العريقة تدين له بسبب وجودها، ولكن هذا النهر كان يتعرض لتعديات كبيرة منذ أواخر العصر العثماني وحتى الآن، الأمر الذي خلق مشكلة مزمنة لهذه المدينة "الكوزموبوليتانية"، وجعل الماء فيها سلعة نادرة تعادل قيمتها قيمة الذهب.

وقام الملاح باشا برحلتين؛ الأولى عام 1907 في أثناء توليه رئاسة بلدية حلب، والثانية عام 1910 إبان إشغاله منصب مدير أوقاف الولاية، زار فيهما مدينتي عينتاب وكلّس بهدف وضع تقرير وصفي لمنابع النهر، والوقوف على أسباب التعديات، ولا سيما تلك الناجمة عن تسلط أهل القرى في قضاء عينتاب، التابع لولاية حلب العثمانية.

كذلك يعرض لوضع "قناة حيلان" التي كانت تمد حلب بمياه الشرب، وينابيعها، ومشاكل تدفقها، ويقدم حلولاً ترمي إلى تحسين موارد المياه في مدينة حلب وتطويرها، من دون اللجوء إلى خيار جر مياه نهر الفرات إلى المدينة كونه ذا تكلفة عالية، مختتماً تقريره بالقول إن برنامج ترشيد استخدام الموارد المائية المتوافرة الذي اقترحه كفيل بأن يوفر الأموال التي كانت ستصرف لجر مياه الفرات.


حل غريب من إبراهيم باشا

وفي عرضه لوضع النهر من الناحية التاريخية يقول: "عدة قرون مضت تبدل فيها كل شيء في هذا العالم الكبير إلا مسألة الماء في حلب، فهي ما زالت إلى اليوم على حالها الذي رآه أسلافنا قبل مئات السنين. ولقد حاول أولئك الأسلاف مراراً أن يصلحوا هذا الخلل، ويضعوا حداً لكل خلاف يقع بشأن هذا الماء ولكنهم لم يفلحوا".

ويضيف شارحاً فكرته: "الماء في حلب قسمان وكلاهما يطلب الإصلاح، الأول نهر حلب الذي يصرف قسم منه للشرب وقسم للري، والثاني قناة حلب المخصوصة لمدينة حلب فقط. والذي يُفهم من الأوراق والوثائق الرسمية التي ما زالت محفوظة إلى اليوم، أن الخلاف والتعديات والشقاق كانت مستمرة بين الأهالي بشأن هذه المياه، وكان أولو الأمر حينئذ يضعون للتسوية بين المختلفين وسائل مؤقتة لا تلبث أن تزول".

ويشرح أن أكثر التعديات والظلم كان يصدر عن سبع عشرة قرية ملحقة بقضاء عينتاب، ولم يكن يحول دونهم إلا المسائل المؤقتة سالفة الذكر. ويروي الملاح باشا قصة تتعلق بالقائد المصري إبراهيم باشا، إبان ضم بلاد الشام إلى مصر في عهد والده، من عام 1831 وحتى عام 1840، حيث يذكر أن الباشا المصري "حين بلغه خبر هذا التعدي، أخذ رجلاً سيافاً يحمل بلطة وسار على ضفاف الماء حتى بلغ مكاناً وجد فيه رجلاً قد سد مجرى الماء وحوله الى زرعه الخصوصي، فأمر السياف بقطع رأسه ثم وضعه في الثغرة التي فتحها. وقال لسيافه بعد أن أعاد الماء الى مجراه لنعد من حيث أتينا فإن هذا الرأس سيكون خير إعلان للمرء أن لا عقاب للمعتدي إلا بقطع رأسه".


رحلتان إلى عينتاب

وعن رحلته في العام 1907 يقول: "إذ كنت رئيساً للبلدية ذهبت إلى عينتاب، وهناك شرعت في اتخاذ الوسائل لمنع هذا الخلاف حتى أمكن أن يعترف لي أهالي تلك القرى بأن لا حق لهم فيما يفعلون، وأن هذا مناف للإنسانية واستعدوا لإعطاء وثائق تحريرية تثبت ما قالوا. وبينما نحن على وشك إنهاء هذا الموضوع الحيوي الخطير جاء والي حلب محمد ناظم باشا، وإذ كان رجلاً ضعيف الإرادة بسيط الإدارة فلم نتمكن من أخذ تلك الوثائق إذ أمر دولته بالاكتفاء في تسوية هذا الخلاف بالوعود الشفهية".

ويتابع متحدثاً عن رحلته الثانية في العام 1910: "استحكم الخلاف في هذا الصدد، وتوسعت دائرة التعديات، وبما أن لي سابقة اشتغال في هذا الموضوع انتدبني الوالي فخري باشا لحل هذا الخلاف وذهابي إلى عينتاب. وفي بادئ الأمر ذهبت الى الست قرى العائدة لفئة من الأشراف ودعوتهم إلى اجتماع عام وأوصيتهم بالعدالة والإنصاف حتى أقروا جميعهم على عدم وجود حق لهم في التعرض لنهر حلب، وأخذت بذلك ست وثائق من كل قرية مصدقة من قبل محرر المقاولات. ثم انتقلت الى الثماني قرى المملوكة لطائفه المزارعين وبحضور هيئة المحاكم الشرعية اعترفوا جميعاً بأن لا حق لهم في نهر حلب، وكل متعرض منهم لهذا النهر يعد متعدياً، وأخذت عليهم بذلك ثمانية عقود مصدقة من الهيئة الشرعية، وهذه الأربع عشرة وثيقة ما زالت محفوظة إلى اليوم بدائرة البلدية، وعلى هذا لم يبق أمامنا إلا ثلاث قرى ما زالت تنزع إلى الخلاف". 


مشكلة زراعة الذرة

ويشير الملاح باشا في تقريره إلى أن "حلب لا تشتد حاجتها الى الماء إلا في السنين التي يزرع فيها أهالي عينتاب نوع الذرة وأمثاله من الأنواع المحتاجة كثيراً الى الماء؛ فإن حلب في السنين التي لا تزرع فيها عينتاب تلك الأنواع تكتفي من الماء مع وجود هذه الشقاق العظيم، والصعوبات الكثيرة الحائلة بينها وبين الماء، وتفيض عنها إلى قرية تل السلطان السابقة الذكر. أما في السنة التي تزرع فيها عينتاب الذرة وأمثالها، فإن حلب تحتاج الى الماء، ولكن تل السلطان وما جاورها تصبح في حالة أقرب الى الموت منها الى الحياة. ومن جهة أخرى فإن نهر الساجور الذي ينبع من عينتاب، إذا جعل مصبه في نهر حلب فقد يصبح أمر حلب أحسن حالاً، وهذا المشروع كان يحتاج الى 1500 ليرة عثمانية".

ويحدثنا الباشا عن قيام والده صالح آغا الملاح، مدفوعاً بعامل الوطنية من دون أن يكلفه أحد، أن يأخذ على عاتقه هذا المشروع، أي تحويل نهر الساجور، ويبدأ فيه فعلاً، حيث صرف ما يبلغ مجموعه سبعين ألف قرش على حفر المجاري التي توصل هذا النهر، وتحول مصبه إلى حلب. ولكن أولئك الذين غضب الله عليهم، والذين لا عمل لهم إلا التخريب والفساد أوقفوا هذا العمل الجليل. فكان والدي يشتغل في مكان وينتقل منه إلى آخر ثم يعود ليرى عمله فإذا به مخرب ومهدم، وكان ذلك سبباً لإيقاف هذا العمل الجليل وذهب السبعون ألف قرش بلا فائدة". 


حق شرعي

يؤكد الملاح باشا أن "هذا الماء حق صراح شرعي لحلب، وإذا أزيلت العقبات التي تحول بينه وبينها تصبح حلب وحدائقها في غنى عن كل ماء آخر.  ويضيف: "وإذا افترضنا أن الحكومة أرادت الاستفادة من بدل الأراضي التابعة للقرى المتنازعة ثم قررت لهذه الغاية أن يبقى الماء لهم فإن الخزينة لن تستفيد بدلاً عن كل ما هنالك من الأراضي أكثر من خمسة عشر ألف ليرة. على أنها إذا صرفت نظراً عن ذلك ومكنت حلب من مائها فإنها بلا شك تستفيد بهذه الواسطة أضعاف هذا المبلغ. دلنا على ذلك على ما نراه في بعض السنين التي تمر بلا تعد ويروق جو السياسة بين أولئك القوم وينال كل حقه، فإن المحصول يأتي اضعافاً مضاعفة".

ويعرض الباشا منعكسات إصلاح هذا الأمر على أسعار الخضار في السوق فيقول: "قد تباع في تلك السنين أقة الباذنجان والبطاطا بعشرين بارة، ولا تتعدى الثلاثين بارة ويقال له غلاء، وألف قرن من البامية كانت تباع من ثلاثة قروش الى أربعة ولم تتعدّها. وعلى هذه النسبة كان تباع جميع الخضروات وسائر محصولات أراضي حلب، وهذا كان لسبب تسهيل سبيل الماء، وليس عجيباً أن يأتي هذا المحصول العظيم بسبب ذلك الماء".


سمعة سيئة للنهر

يوضح الباشا أن سمعة نهر قويق السيئة بأنه نهر ملوث، سببها التعديات وليس أصل المياه إذ يقول: "إن الفريق حمدي باشا الطبيب المشهور فحص ماء نهر "جادغين" الذي هو أصل نهر حلب، وقرر بعد الفحص الدقيق أن ماءه أعذب وأفضل من ماء نهر "قره قولاق" الذي تفخر إستانبول بعذوبته ولذته. وإذا حملنا قول هذا الدكتور على محمل المبالغة فإننا نستطيع أن نقرر أن ماء نهر حلب إذا لم يكن أفضل من "قره قولاق" فلا يقل عنه جودة وعذوبة. ومع هذا فإن نهر حلب لا يسيل من نهر جادغين فقط بل هو من اثني عشر جدولاً غير هذا النهر".

الصورة
باشا حلب - القسم الثقافي
باشا حلب (Getty)

وفي وصفه لسبب هذه التعديات يقول الملاح باشا: "لقد أسعدني الحظ أن دققت بنفسي ماء هذه الموارد الاثني عشر، فوجدتها كلها من أحسن المياه وأطهرها وأعذبها. أما ما نراه من ماء هذا النهر من الأقذار والفساد والعفونة فيه، فليس طبيعيا في الماء، وإنما لذلك سبب آخر. فمعلوم أن المسافة بين حلب وبين منبع هذا النهر تمتد عشرين ساعة عن حلب، وهذه المسافة كلها غاصة بالقرى والمزارع على ضفاف الماء. وإذا قدر لنا أن نمر يوماً بهذه القرى نرى سكانها بالإجماع يذهبون صباحاً ومساء بما عندهم من المواشي والحيوانات، ويسقونها وسط النهر، ثم يأتون بثيابهم الملوثة بالخبائث ويغسلونها فيه. ولا حاجة للإحصاء فإن هذا العمل دائم ومستمر في جميع القرى، وبهذا السبب يفسد الماء ويُرى غير صاف. وهذا أمر سهل الحل فإن أولئك القرويين لا يحتاجون إلى مرور أكثر من ثلاثة أو أربعة من الجنود الخيالة لمنع ذلك، ثم يسوقون من يخالف الى المحاكم أكثر من مدة فيكف الأذى ويتطهر الماء ويسيل صافياً رائقاً عذباً وحق وصف الدكتور حمدي باشا".


وصف للينابيع

وحول وضع قناة حلب يقول: "قناة حلب تأتي من مسافة تبعد مقدار عشرة كيلو مترات، وهي تسير من ثلاثة ينابيع. وإن مقدار الماء الذي يسيل من الينابيع الثلاثة يمكن تقديره بواحد من ثلاثة من النهر، أي أن ماء القناة يعادل ثلث ماء النهر".

ويستطرد: "ليست الينابيع الثلاثة في درجة واحدة من الأهمية، فإن اثنين منها يكادان أن يكونا لا أهمية لهما، أما ثالثها والمعروف باسم بركة الرشح فهو عظيم الأهمية. وهذا النبع موجود على شكل حوجلة كبيرة. وقد أراد بعضهم في الماضي أن يحدث إصلاحاً في هذا النبع، ولكنهم بخلوا فلم يصرفوا أكثر من ألفي قرش، فكأنهم لم يفعلوا شيئاً، إذ إن الأحجار المهشمة والأقذار المجمعة في داخل هذا الينبوع يبلغ ارتفاعها متراً ونصف المتر، على أقل تقدير. وبديهي أن هذا الارتفاع في نبع صغير كهذا كاف لتعطيل سير الماء بصورة منتظمة، بل إن هذه الأقذار لا تخل بنظام الماء فقط بل تذهب بأكثره سدى. وقد فعلوا ذلك مراراً ولكنهم لم يجودوا بأكثر من هذا المبلغ، فكان يفهم كالأول. على أننا إذا أردنا تطهير هذا النبع بصوره فنية تامة لا تقبل فساداً فيما بعد، فإننا نحتاج إلى ألف جنيه على الأقل. أما إذا استطعنا أن نحصل على مئتي عامل من طابور العملة ليشتغلوا في هذا الينبوع مدة لا تتجاوز الخمسة عشر يوماً، فإننا نقدر أن نقتصد ربع هذا المبلغ فيكون احتياجنا إلى 750 جنيهاً. وبديهي أن مجرى الماء أي نفس القناة من النبع إلى خارج المدينة، مخرب كثيراً ومحتاج للإصلاح، فلأجل تعمير تلك المسافة البالغة 10 كيلو مترات، كما تقدم، تم إيصال قناة من خارج المدينة إلى داخلها يمكن تقديرها باثنين من الكيلو مترات، والجملة 12 كيلو مترا. لأجل ذلك كان يحتاج الى خمسمائة جنيه فقط".


رأي مهندس بلجيكي

يستشهد الباشا برأي مهندس بلجيكي أتى إلى حلب في العام 1908، ورأى هذا الينبوع وهذه القناة، ثم وضع تقريراً في هذا الخصوص، قال فيه إنه "إذا اقيمت مجارٍ حديدية، أو رصاصية لماء هذا الينبوع من هنا إلى المدينة، فإن حلب وحدائقها تقدر أن تكتفي بمائة، ويكون المحصول أكثر من ذي قبل".

ويعقب الملاح باشا بقوله: "ولكن كان نصيب هذا القرار كنصيب غيره أي "الحفظ". وعندي أن لا حاجة إلى تلك المجاري الحديدية بعد أن نلنا ماء عين التل الذي أصبح مسقى المدينة وفيه الكفاية للشاربين. فإذا أصلحنا القناة فقط وخصصناها لري الحدائق، زال من طريق الماء كل عقبة، وأمنا شر الشقاق والمعتدين؛ فلننظر الآن في الوسيلة المؤدية إلى جمع هذا المبلغ".

المساهمون