حكي جرايد

حكي جرايد

18 ديسمبر 2020
برهام حاجو/ سورية
+ الخط -

في بداية القرن العشرين، كتب إبراهيم اليازجي كتيباً سمّاه: "لغة الجرائد"، وكان هدفُه من الكتاب أن يُصحّح الأخطاء اللغوية التي بدأَت تَظهر في لُغة الصحافة العربية، وحين وصلَنا إلى نهاية القرن ذاته كان الناس يتداولون عبارةً تُشبه عنوان كتاب اليازجي قليلاً، غير أنها تُعبّر عن معنى مختلف كلّياً، وهي "حكي جرايد". وبها كانوا يقابلون الأخبار الزائفة، أو الملفّقة، أو تلك التي لا يريدون أن يصدّقوها، وهُم يُشبّهونها بما يُكتَب في الجرائد، فقد اعتادوا، بعد مائة عام، أن لا تُقدِّم لهم تلك الجرائد التي يرونها في الأسواق العربية خبراً صحيحاً موثوقاً، واعتادوا أنها لا تقول كلاماً مسؤولاً، وهي تكذب عليهم طوال الوقت، وتغش في أخبارها، وتلفّق الموضوعات وتُزوّرها، فما كان منهم إلّا أن يُديروا لها ظهورهم، ويطلقوا على ما تتضمّنه من أخبار وتقارير وموضوعات هذه العبارة التي صارت تشبه المثل السائر، وتقول إنهم فقدوا الثقة بها.

أعتقد أن لتاريخ نشوء العبارة، أي متى تبنّاها الناس وصارت جزءاً مِن نمط تفكيرهم بقيمة الصحافة، علاقة وثيقة بتاريخ الحرية، أي ذلك التاريخ الذي بدأت تُنتَزع فيه حرية التعبير من أفواه الناس وأيديهم، وتتسلّم السلطات الحاكمة زمام قيادتها.

الراجح أنَّ الحريات عامّةً قد تم انتهاكها أو إلغاؤها طوال العهود التي سلفت من تاريخ العرب، غير أنها ترتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بظهور الصحافة المكتوبة في العالم العربي، فتاريخ الصحافة وحرية الصحافة مثلاً مرتبطان بقوانين التعطيل والمصادرة التي تعرّضت لها الصحافة العربية منذ زمن التأسيس في القرن التاسع عشر؛ أي من أيام السلطان عبد الحميد، حتى يومنا هذا.

تاريخ الصحافة وحرية الصحافة مرتبطان بقوانين التعطيل والمصادرة

اللافت هو أن الصحافة العربية كانت تُعد بالآلاف، بحسب ما يقول إبراهيم اليازجي في كتابه. ثم جاء من بعده "الفيكونت فيليب دي طرازي"، فألّف كتاباً ضخماً يقع في أكثر من ألف صفحة، سمّاه "تاريخ الصحافة العربية". وصدر في عام 1913. صحيح أن العلاقة بين الكم والكيف ليست طردية، ولا عكسية أيضاً، غير أنَّ العدد الكبير من الصحف مؤشّر على حيوية الحياة العربية التي كانت تتطلّع إلى الحرية من جهة، ورغبة العرب في التعبير عن أنفسهم، أو عن هويتهم القومية من جهة أُخرى.

ويُسجّل الدكتور شمس الدين الرفاعي، في مقدّمة كتابه "تاريخ الصحافة السورية"، عبارةً لا يمكن كتابتها اليوم في أي تاريخ للصحافة بعد الاستقلال؛ إذ يقول: "كانت الصحافة السورية العامل الأكبر في تكييف النظم الاجتماعية وتسييرها في الاتجاهات السياسية، واعتناق المبادئ الاجتماعية والسياسية".

ففي عهود الاستقلال العربية، كان كل انقلاب جديد يقرن بداية حكمه بإصدار قوانين تعطّل الصحافة، ثم يعمدون إلى مصادرة مقرّات الجرائد والاستيلاء على ممتلكاتها.

ولكنَّ عدم الثقة بين الصحافة والناس لم ينشأ من قوانين التعطيل فقط، بل من قيام الأنظمة العربية باستبدالها، أي بإصدار صحف مأجورة تدافع عن هذا الحكم الذي يُرخّص لها وتنطق بسياساته. صحف خاصّة بزعماء الانقلاب. صحف صفراء تابعة تحكي حكي جرايد.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون