استمع إلى الملخص
- تأسست المستعمرات الأولى في الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، حيث لعبت المقاهي والحانات دورًا مهمًا في الحياة الاجتماعية والثقافية، وكانت مراكز للنقاش وقراءة الصحف.
- في تشارلستون، أدى قانون زيادة الضريبة على الشاي إلى احتجاجات ومقاطعة الشاي، مما ساهم في إشعال حرب الاستقلال الأميركية. تشارلستون تفتخر بتاريخها في زراعة وتصنيع الشاي.
في الشهر الماضي كانت الذكرى الـ252 لـ"حفلة الشاي" التي أُقيمت في مدينة بوسطن بتاريخ 16 كانون الأوّل/ ديسمبر 1773 واشتهرت باسم The Boston Tea Party، وكانت الشرارة التي فجّرت التمرّد ضدّ الحُكم البريطاني وصولاً إلى الثورة الأميركية وإعلان استقلال الولايات المتّحدة في الرابع من تمّوز/ يوليو 1776.
وتُشير "حفلة الشاي في بوسطن"، بالطبع، إلى وصول هذه المشروب الجديد (الشاي)، بالإضافة إلى القهوة، إلى المستعمرات الإنكليزية في أميركا الشمالية، وما ترتّب على ذلك: افتتاح بيوت القهوة Coffee Houses أو المقاهي في مدن تلك المستعمرات. وكان من الطبيعي أن تصل القهوة والشاي من لندن، حيث شاعت المقاهي في القرن السابع عشر، بعد أن وصلتا إليها من الشرق بعد انتشار المقاهي في دمشق والقاهرة وإسطنبول وسراييفو والبندقية وباريس.
ولكن، بالمقارنة مع مقاهي الشرق، التي انحصر دورها في المجال الترفيهي بعد أن أصبحت تجمع الروّاد حول ألعاب النرد والشطرنج والطاولة وسماع الموسيقى ومشاهدة المسرح الشعبي (كركوز وعِواظ)، نجد أنّ مقاهي لندن التي قاربت الألف في القرن السابع عشر لعبت دوراً فكرياً بعد أن تحوّلت إلى مراكز للنقاش وقراءة الصحف والدعوة إلى الأفكار الليبرالية الجديدة التي جعلت من بريطانيا لاحقاً رائدة في النظام الملكي البرلماني بعد تجربة "جمهورية كرومويل" (1649 - 1858) و"الثورة المجيدة" (1688).
المقاهي الأُولى في أميركا الشمالية
تأسّست المستعمرات الأُولى في الساحل الشرقي لأميركا الشمالية لكونه كان الأقرب لـ"الآباء المؤسّسين" الذين هربوا من الاضطهاد الديني في أوروبا، التي بقيت تأتي منها السلع التي اعتادها الناس هناك. وفي الأماكن التي حطّت فيها السفن الأُولى نشأت موانئ/ بلدات صغيرة مثل بوسطن (1630) وبروفيدنس Providence (1636) ونيو بورت New Port (1639) وتشارلستون Charleston (1670) وغيرها، التي تحوّلت لاحقاً إلى مدن كان لها دورها في التطوّر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجديد.
ومع هذا التطوّر العمراني الجديد، الذي استلهم ما هو موجود في إنكلترا، كانت الحانات هي المنشآت الأُولى أو الثانية التي كانت تُبنى في البلدات بعد البيوت العامّة أو بيوت الاجتماعات Meeting houses، التي كانت تُستخدم لاجتماعات مجلس البلدة ورجال الأعمال والعبادة وغيرها. وفي الحالة الأُولى، أي عندما كانت الحانات تُبنى أوّلاً، كان يتمّ فيها عقد اجتماعات مجلس البلدة والعبادة (إلى حين بناء كنائس مستقلّة)، كما كانت مصدراً للأخبار ومحطّات لاستراحة عربات الخيول التي تنقل الركّاب من مدينة إلى أُخرى. ولذلك كانت الحانة مؤسّسةً لها دورها في الحياة الاجتماعية والثقافية حتى القرن التاسع عشر، حين نافستها على الزبائن المطاعمُ والفنادقُ الجديدة والبارات الحديثة.
صحيح أن الحانة tavern بقيت تحتفظ باسمها القديم، ولكنّها كانت منفتحة على المستجدّات في عالم المشروبات، ومن ذلك تقديم القهوة والشاي لزبائنها الجدد. ومن الواضح أنّ القهوة والشاي وصلتا إلى الساحل الشرقي في أواخر السابع عشر، وهو القرن الذي انتشرت فيه المقاهي في لندن حتى أصبحت في كلّ مكان. ومع ذلك يلاحَظ أنّ وصول القهوة والشاي إلى المرافئ/ المدن الأميركية أدّى إلى ظهور المقاهي coffee houses إلى جانب الحانات، دون أن يعني هذا أنّ المقاهي كانت تقتصر على تقديم القهوة والشاي للزبائن، أو أنّ الحانات لا تشمل تقديم القهوة والشاي أيضاً. ولكن، مع مرور الزمن أصبح سكّان المدن الجديدة في الساحل الشرقي، كما تقول المؤرّخة الأميركية ماري بث نورتن (M.B. Norten)، من "أكثر الناس شرباً للشاي في العالم".
"حفلة الشاي" الأُولى في تشارلستون
من هذه المدن التي نمت بسرعة في جنوب الساحل الشرقي كانت تشارلستون التي تأسّست في 1670 على مصبّ ثلاثة أنهار (آشلي وكوبر وواندو) في المحيط الأطلسي، ونمت بسرعة حتى أصبحت بعد عشرين سنة خامس أكبر مدينة في أميركا الشمالية. ونظراً لولع السكّان بالشاي، فقد أصبح الشاي المهرّب أو "الشاي الهولندي" مرغوباً به لكونه أرخص من الشاي الذي أصبحت تحتكره "شركة الهند الشرقية". ولتعويض ذلك قام البرلمان البريطاني في 1773 بإصدار قانون لزيادة الضريبة على الشاي الذي تحتكر تجارته "شركة الهند الشرقية"، حيث كان بعض أعضاء البرلمان من المستثمرين في الشركة المذكورة.
وقد أدّى هذا القانون إلى إثارة سخط السكّان في الساحل الشرقي وبدأ الاحتجاج على السلطة البريطانية تحت شعار "لا ضرائب دون تمثيل"، أي دون أن يكون لسكّان الساحل الشرقي رأيٌ في ذلك، وأثمر ذلك عن تأسيس جمعية "أبناء الحرية" التي كان لها دورها في الأحداث اللاحقة. ويبدو ذلك بوضوح من تحريض الجريدة المحلّية "ساوث كارولاينا غَزيت" التي كانت تُوجّه القراء للاعتراض على القانون المذكور، لأنّ الهدف من ذلك القانون "المزيد من الدخل (للشركة) من جيوبكم".
وفي هذا الجوّ، وصلت الميناء في الأوّل من كانون الأوّل/ ديسمبر 1773 "سفينة لندن" التابعة لشركة الهند الشرقية وعلى متنها 257 صندوقاً من الشاي. وقد أدّى انتشار الخبر إلى اجتماع مجموعة من السياسيّين ورجال الأعمال في "حانة سوالو" Swallow التي بُنيت في 1720، حيث ناقشوا واتفقوا على مقاطعة الشاي الموجود على ظهر السفينة، وسمحوا لقبطان السفينة بإنزاله إلى مخزن بالمرفأ دون السماح بتداوله.
انتشر خبر هذا "التمرّد"، أو ما سُمّي لاحقاً "حفلة الشاي الأُولى"، إلى المدن الأُخرى في الساحل الشرقي، وهو ما اعتُبر الشرارة الأُولى التي وصلت إلى بوسطن في الشمال، حيث قام المحتجّون بعد أسبوعين (16 كانون الأوّل/ ديسمبر 1773) بإلقاء شحنة الشاي في مياه الميناء ليشعل ذلك المواجهة بين السكّان المحتجّين على الضرائب وبين السلطة البريطانية، والتي أدّت إلى حرب الاستقلال الأميركية عن بريطانيا.
ومن هنا يجد الواصل إلى مطار تشارلستون الدولي لوحة إعلانية كبيرة تقول "إن تشارلستون سبقت بوسطن في حفلة الشاي الخاصّة بها". ولكنّ السياح القادمين إلى تشارلستون يجدون في انتظارهم أيضاً مفاجآت أُخرى تتعلّق بالشاي وثقافته في هذه المدينة، التي أضحت أراضيها مناسِبة لزراعة الشاي وتصنيعه وتصديره. ولذلك يكون "متحف الشاي" مغرياً للتعرّف على هذا الجانب من التاريخ الثقافي للشاي في جنوب الولايات المتّحدة، حيث لدينا هناك مزرعة الشاي الوحيدة ومصنع الشاي الوحيد في الولايات المتّحدة الذي يسوّق كلّ أنواع ونكهات الشاي الساخن والبارد بعبواته وأكوابه المختلفة التي ترّوج لـ"الشاي الأميركي".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري