استمع إلى الملخص
- يستلهم المعرض من الميثولوجيا والتاريخ، مستخدماً تقنيات متنوعة مثل الحفر والطباعة الحرارية والتركيبات الصوتية، ويستعرض رموزاً ثقافية مثل "سياوش" و"صقر قريش"، مما يعكس تفاعلاً بين الأصالة والحداثة.
- يدعو المعرض الزوار للتأمل في أدوات الفن المعاصر، حيث يتنقل بين الماضي والحاضر، ويبحث عن "طريقة لائقة للغرق"، مما يبرز التوتر بين البساطة والتعقيد في التعبير الفني.
معرضٌ أم قصيدة؟ هذا هو السؤال الذي يتردّد عند زيارة معرض "أعوام الوجه المُضيء" للفنّان اللبناني حسين ناصر الدين (1992)، والذي افتُتح في "مركز بيروت للفنّ" بالعاصمة اللبنانية، في السادس من شباط/ فبراير الجاري، ويتواصل حتى السادس من حزيران/ يونيو المُقبل.
لا تتأتّى المُشاكَلة في المعرض المتعدّد الوسائط مع الشِّعر واللغة من باب الاستعارة الفنّية العابرة، بل من أنّ ناصر الدين يستحضر اللغة في تجهيزاته ويجعل منها قوَاماً أصليّاً. وهنا نتساءل: على ماذا يُعوِّل؟ أعلى مَكِنَة الفصيح في حياتنا، وهذا غيرُ وارد طبعاً، أم على إشارات العربية الضعيفة أصلاً في مدينة سريعة ومتنوّعة كبيروت، والتي تكاد لا تكون مُعاشة، ولا مفهومة التلميحات، أمام طوفان الإنكليزية الذي يُغرِق معاشنا؟
استعادة علاقة تأسيسية مع الشعر ديوان العرب و"معرضهم" القديم
يُوطِّئ الفنّان اللبناني، المُقيم في باريس، لمعرضه بالآية 47 من سورة الحجّ "وإنّ يوماً عند ربّكَ كألفِ سنة ممّا تعدّون"، قبل أن يرتحل مع شعر عمرو بن كلثوم، ويهيم شوقاً خلف نصوص المتصوّفة، حتى يقف عند نخلة عبد الرحمن الداخل في إشارة الغريب وامتحانه في أرض جديدة/ أرضٍ مُحتلّة، كحال القرية اللبنانية الجنوبية، التي ينحدر منها ناصر الدين، والتي دمّرها العدوان الإسرائيلي مراراً. كما يستلف الفنّان تقنية "الوجه المُضيء" من عالم المُنمنمات الإسلامية، حيث تحجب هالةٌ من نور وجوه الأنبياء والأئمّة، إلّا أنّ بطلَه، الذي يظهر في الغلاف الرئيسي للمعرض، لا يقف عند هذا الحدّ السِّحري، بل يعبر النار على حصانه في مقاربة تُذكّرنا بـ"سياوش"، بطل "شاهنامة" الفردوسي، المُستعاد في "چهار شنبهسوری" (احتفالية الأربعاء الأخيرة قبل النوروز).
بهذا، يُمكن القول، إنّ الزائر أمام حشد من الرموز والحكايات والميثولوجيا، لا يُخفِّف من حدّته سوى قليل من اللعب واستلهام "إنو غيري خَد مكاني، وِنّو قلبَك مُش عشاني"، المقطع الشهير من أُغنية "سلطان الطَّرب"، جورج وسوف، وكأنّ ما يبدأ بصلابة عمرو بن كلثوم قد ينتهي إلى انكسار "لو نويت تنسى اللي فات"، حقّاً إنّ الشجا ليبعث على الشجا.
تتوزّع تجهيزات حسين ناصر الدين على تقنيات وخامات: الحفر على الخشب والزنك، والطلاء، والورق الكربوني، والفولاذ، والحجر الجيري، والطباعة الحرارية على أغلفة الجِلد، والتسجيلات المرئية الغامرة، والتركيبات الصوتية، كما في عمله "كالطيور، نيام"، حيث يُقاسمه الحوار شقيقُه الشاعر والمترجم محمد ناصر الدين، ويختمان بمقطع من "فاتت جنبنا" أُغنية عبد الحليم المعروفة.
يدفعنا معرض "أعوام الوجه المُضيء" إلى تملّي أدوات الفنّ المُعاصِر ومآلاته بعد الحداثية، فبقدر ما يتشرَّب هذا النوع، تقنياً، روح العصر الذي نعيش به، نجدُه، في المقابل، مسكوناً بالأصالة والإحالة إلى الماضي، إنه يبحث، تماماً، عن "طريقة لائقة للغرق" (عنوان أحد الأعمال)، وضائعٌ في "غابة النخيل" الأندلسية لـ"صقر قريش"، ومُنبِّهٌ على "الأيدي الناعمة التي مهما حَسُن جمالُها لن تستطيع أن تُمسك بالنهر". الفنّان هنا حيَّدَ البساطةَ وكلَّ ما هو "مطبوع" - لو استعرنا من الأقدمين معجمَهم النقدي - واستغرق في "المصنوع"، مُنزاحاً من عوالم الصورة والأعمال الفنّية البصرية، ذات الطابع الحداثي واضح الحدود، إلى المكتوب والمقروء، إلى اللغة والشعر الذي هو ديوان العرب و"معرضهم" القديم.