حسام السلطنة.. السلطان القاجاري شاهداً على نهضة مصر

حسام السلطنة.. السلطان القاجاري شاهداً على نهضة مصر

06 نوفمبر 2021
رسم لأهرامات الجيزة في القرن الثامن عشر (Getty)
+ الخط -

زار السلطان القاجاري مراد ميرزا، الشهير بلقب "حسام السلطنة"، مصر ضمن محطات رحلته الكبرى التي استمرت تسعة شهور، ما بين 6 آب/ أغسطس 1880، و23 أيار/ مايو 1881، وأبدى إعجابه الشديد بنهضتها التي قارنها بالدول الأوروبية آنذاك. وقد تزامنت زيارته إلى القاهرة مع زيارة الأرشيدوق النمساوي الأمير رودولف التي تناولناها في مقال سابق، ولكنهما لم يلتقيا معاً.

وحسام السلطنة هو عم ملك إيران ناصر الدين شاه، ويعد من الشخصيات السياسية البارزة والواسعة النفوذ في العصر القاجاري، ورحلته هذه كانت بهدف الحج، ولكنها تجاوزت هدفها المعلن، وشملت الكثير من دول الشرق بدءاً بعاصمة السلطنة العثمانية إسطنبول، مروراً بمصر، والحجاز، وبلاد الشام، بما في ذلك القدس وما حولها، ودمشق وبيروت، وغيرها من جزر المتوسط ومدن البحر الأسود. ولم يمهل الزمن صاحب الرحلة فقد توفي بعدها بعام واحد.

وفي نص رحلته المعنونة بـ "سفرنامة مكة"، خصّص حسام السلطنة فصلاً كبيراً عن مصر، استعان في كتابة معلوماته بالكثير من المراجع التي عزّز بها مشاهداته الشخصية، فقدم صورة مشرقة عن مصر في عهد الدولة الخديوية، وكذلك عن الخديوي توفيق الذي تابع مسيرة والده إسماعيل باشا في عملية التحديث الكبيرة وغير المسبوقة في جميع دول الشرق، حتى غدت قدوة للدول الشرقية الطامحة إلى النهوض.

صدرت هذه الرحلة باللغة الفارسية عام 1952، وفي الآونة الأخيرة ترجمها إلى العربية عبد الكريم جرادات، وستصدر قريباً عن دار "المتوسط"، إذ كانت إحدى الرحلات الفائزة بجائزة "ابن بطوطة" المخصصة لأدب الرحلات في دورتها الأخيرة.

في الإسكندرية
وصل حسام السلطنة إلى ميناء بورسعيد في العاشر من شباط/ فبراير 1881، وحظي باستقبال رسمي رفيع، قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية التي شهد فيها استقبالاً مماثلاً، وخصّص الخديوي له عمارة رأس التين للإقامة فيها، ويقول إنها تقع شمالي البحر، وتتصل بالشاطئ، وباحتها مرصوفة بالأحجار الممتازة، وغرفها تحيط بساحة واسعة قسمت إلى جنينات تتوسّطها بركة ذات مرتبتين منخفضة فارغة، ومرتفعة مليئة بالماء.

أما الإسكندرية فقد وصفها بأنها ذات أبنية مكوّنة من طابقين أو ثلاثة على الطراز الإفرنجي، وأزقتها واسعة، وأكثر شوارعها مضاءة بالمصابيح الغازيّة، ومعظم الناس يتنقلون بين حواريها وأزقتها مستقلين العربات. ويشير إلى وجود خمسة عشر ألف عربة في المدينة، بينما يبلغ عدد سكانها مئتي ألف نسمة. ويقول إن نسبة المسلمين فيها أقل من النصارى.

وقد لفت نظره ميدان المنشيّة الذي وصفه بقوله: "لا يعدو ميدان المنشية أن يكون شارعاً رحباً طويلاً، ومتسعاً عرضاً، في نهايته سراي الحقانية، وهي عمارة ديوان العدلية. قاموا برفع أطراف الشارع، وركزوا أعمدة صغيرة على جوانبه، وأوصلوها ببعضها باستخدام السلاسل، وقام إسماعيل باشا بوضع تمثال نحاسي ضخم لجده على مصطبة مرتفعة وسط الميدان مرتدياً عمامة وراكباً فرساً، وأنشأوا مسقفات للفرقة الموسيقية لتجتمع كل مساء للعزف. وعبّدوا شارعين على طرفي الميدان رصفت أرضيتهما بالحجارة، وعلى جانبيهما حوانيت كثيرة تعرض أنواع النفائس من كل ما تشتهيه الأنفس، كانت العربات والمارة يسيرون عبر الشارعين الجانبيين للتنزه والتسوق. عندما تشعل المصابيح الغازية ليلاً تضفي على المكان حسناً ساحراً يأسر الألباب، فصار الميدان متنزهاً للناس صباحاً ومساءً، يأوون إليه لاحتساء القهوة والشربات وتدخين النرجيلة، فتراهم فرادى وجماعات تبدو عليهم علائم الحبور والسرور".

حديقة النزهة
أما حديقة النزهة فيقول إن "إسماعيل باشا قام بإنشائها، على يمين الشارع الذي عبّده محمد علي باشا بمحاذاة نهر المحمودية، وهي حديقة كبيرة تتخللها الشوارع، وتكتظ بالأشجار والأزهار التي تحجب أشعة الشمس، فقلما يجد شعاعٌ منفذاً لسطح الأرض بين الأغصان الوارفة، ومن ضمن أشجارها شجرة باسقة جلبوها من الهند تسمى لَنج، وهي سامة كما ذكروا لنا. في وسط الحديقة موضع مرتفع بنوا فيه سقيفة على ثمانية أعمدة خشبية مكاناً للفرقة الموسيقية، وتركت جوانبها مفتوحة، ووضعوا حولها مقاعد كثيرة يجلس عليها الحضور رجالاً ونساءً يومي الأحد والجمعة، موعد فتح الحديقة التي يدخلها الناس بلا مقابل".

يمتدح حسام السلطنة محطة تنقية المياه في الإسكندرية، هذه التنقية التي تتم "بواسطة الأدوات والآلات الحديثة، حيث مدوا أنابيب فخارية تحت الأرض تقوم بإيصال الماء إلى مصنع آخر بمحاذاة الباب الشرقي مشرف على عموم العمارات، تتشعب الأنابيب لتصل إلى كل الأحياء، فيشتري كل بيت حاجته، وهناك أنابيب دقيقة تصل إلى البيوت". وبعد أن مكث يومين في الإسكندرية توجه إلى القاهرة على متن القطار، حيث أعدت له ولحاشيته خمس مقصورات قطار فاخرة؛ ووصلوا إلى القاهرة بعد مسير خمس ساعات مع عدم احتساب الوقفات. وفي القاهرة تم تخصيص بيت السيدة فائقة، شقيقة توفيق باشا خديوي مصر، مقراً لإقامته ويقع البيت في حي الإسماعيلية.

ظهر نصّ الرحلة بالفرنسية عام 1952 وستصدر ترجمته العربية قريباً

في ضيافة الخديوي
وفي صباح اليوم التالي حضرت عربات وتشريفات لنقله إلى مقر الخديوي، حيث كان بانتظارهم. وقد وصف الخديوي توفيق بكلمات طيبة: "جاء الخديوي حتى السلالم لاستقبالنا، لم أطاوعه وهو يحاول تقديمي للدخول، فدخلنا سوياً، ولم أقبل أن أجلس مجلساً أعلى من مجلسه، فجلست وإياه على سرير ملكي واحد، وانشغلنا بالحديث. كان الخديوي إنساناً عاقلاً وقوراً، وبشوشاً ذا أخلاق حسنة، أبوه إسماعيل باشا الخديوي السابق لمصر، عدنا أدراجنا بعد احتساء القهوة وتدخين النرجيلة. بعد نصف ساعة جاء لزيارتنا جلالة الخديوي، وبرفقته راشد باشا الوزير الأعظم، فعجلت بإرسال نجليّ إلى الطابق السفلي لاستقباله عند السلالم، وأنا وقفت عند باب قاعة الضيافة. بعد حضورهما جلسنا في غرفة ثانية وانشغلنا بالحديث، وبعد تناول القهوة وتدخين النرجيلة انصرفا".

القاهرة وزيارة الأهرامات
زار حسام السلطنة مسجد السيدة زينب والحسين، قبل أن يتوجه إلى الحديقة العامة، وهي حديقة الأزبكية، ويقول في وصفها: "حديقة كبيرة تتعدد أبوابها وهي مشرعة من جميع الجهات، تتوسطها بحيرة عظيمة، يسير فيها وابور صغير، وقد أحاطوا الحديقة بسياج حديدي من جوانبها الأربعة، وقسموها إلى جنينات خضراء نضرة يحيط بها عدد كبير من المقاعد الحديدية الأنيقة لجلوس المتنزهين من رجال ونساء. واستحدثوا جبلاً صناعياً تنبع من وسطه عين ماء تبدو وكأنها طبيعية، أسفل الجبل فراغ لتعبر المياه من خلاله، فيرى الزائر منظراً نضراً مبهجاً".

ويضيف رحالتنا القول إن "قاهرة المعز منهدمة، ولم يتبق منها سوى طلل من قلعتها، لكن مصر الجديدة عامرة، وكان محمد علي باشا سبب عمرانها، إذ قام بتشييد العمارات، وإنشاء الحدائق، وتعبيد الطرق، ثم تبعه إسماعيل باشا فاقترض وأنفق عليها، وهو من بنى حي الإسماعيلية، وعبد طرق كبيرة فيها، كما قام بغرس الأشجار، ونصب المصابيح الغازية على جوانب الطرق، ثم بنى قناطر حديدية على النيل في غاية الاستحكام تفتح حين عبور السفن، وقام بشق ترعة الإسماعيلية من النيل إلى السويس، فأصبحت مصر عامرة، وشعبها وحكومتها في أعلى مراتب الرقي والازدهار، وبلغوا مكانة الدول المتمدنة المتطورة".

ويحدثنا عن حضوره في ليلة الجمعة تلبية لدعوة من الخديوي عرضاً مسرحياً في دار الأوبرا، ويبدو أنه لم يعجبه فغادر هو والخديوي قبل مقطعه الأخير، لكن الخديوي طلب منه الحضور في الليلة التالية كي يشاهد عرضاً أفضل. وفي وصفه لدار الأوبرا يقول: "تمتد أمام دار المسرح ساحة شاسعة تضاهي الميدان، بدت عليها لمسات الإبداع وحسن الترتيب، لها بابان؛ أحدهما قبالة الميدان جعلوا لها سقفا وأحاطوه بأعمدة حجرية، والباب الآخر على يسار المسرح. قاعة المسرح واسعة طولا وعرضا ومرتفعة، في وسطها علقت ثريا كبيرة مصنوعة من المرمر الذي يشبه الشمع الكافوري، وفيه مصابيح تعمل بالغاز، رتبوا الكراسي والطاولات والمرايات الكبيرة في الباحات لجلوس النساء والرجال حين الاستراحة بين المشاهد المسرحية والتجوال بينها، يتكون البناء من أربعة طوابق فيها العديد من الغرف المزينة البديعة".

وفي صباح اليوم التالي زار حسام الدولة القلعة ومسجد محمد علي باشا ومقبرة الإمام الشافعي، ومقبرة إبراهيم باشا، ومقبرة السيدة نفيسة قبل أن يذهب إلى الأوبرا من جديد تلبية لدعوة الخديوي. ويقول إن التمثيل في هذه الليلة كان في غاية الامتياز، فجلس مع الخديوي حتى المشهد الأخير.

وخصص اليوم التالي لزيارة الأهرامات في الجيزة ويقول: "بلغنا سرايا عند نهر النيل يسمونه قصر النيل، ثم تخطينا جسراً كان قد بناه محمد علي باشا من الحديد، ودخلنا شارعاً طويلاً ممهداً مدوه وسط الوحل حتى الأهرام تجتازه العربة في غضون ساعة، غرسوا على طرفيه أشجار اللَنج، فبدت جنباته مخضرة يانعة، ونهر النيل يقع عند جانب منه. قام إسماعيل باشا بإنشاء حديقة عظيمة على يمين الشارع في بطن وادي الجيزة، وأقاموا كل جدرانها من الحجارة، وهي ذات باحة أمامية، لها أبواب وضعوا قريباً منها شباكاً من الحديد، ويستغرق الطواف حولها ساعة باستخدام العربة. وقد أنشئت الحديقة في هذا الطرف لإعمار المنطقة، فتغدو مضاهية لمضيق إسلامبول (البوسفور)، وحتى يصبح طرفا النيل عامرين، ولأجل زراعة الأرض أوصلوا مياه النهر إلى المكان بآلات ومعدات، غير أن المشروع لم يتم بسبب عزل إسماعيل باشا ونفيه إلى إيطاليا من قبل فرنسا وبريطانيا".

حدائق القاهرة
بعد أن يصف بالتفصيل الأهرامات وتمثال أبي الهول يعود إلى حديقة شبرا، ويقول إنها تقع في قرية شبرا في الشمال، تبعد عن حي الإسماعيلية مسافة ساعة، بعدما اجتازوا جسر الإسماعيلية الحديدي ووصلوا إلى شارع واسع ممتد، على طرفيه أشجار اللنج القديمة، وشاهد في الطريق إلى شبرا حديقة الشوكاني على يمين الشارع، وحديقة النزهة على اليسار.

الصورة
حديقة مصرية في رسم من القرن الثامن عشر (Getty)
حديقة مصرية في رسم من القرن الثامن عشر (Getty)

وفي وصفه للحديقة يقول: "بنيت حديقة شبرا من قبل محمد علي باشا، وهي حديقة كبيرة تتوسطها سقيفة مرتفعة لها مدرجات، ووسطها بركة، وفيها ليوانات من الجهات الأربعة مزينة بالأحجار المنبتة، غرسوا فيها أشجار الكرمة ورفعوها على أعمدة خشبية، وفي نهاية الحديقة عمارة مستطيلة مسيّجة، مدخلها يرتكز على عامودين متصلين بسقف ليوان البوابة. تتميز العمارة بالأعمدة في ليواناتها من الجهات الأربع، يبلغ عددها مئة وعشرين عموداً رخامياً، كل عامود من قطعة واحدة تحيط بكل البناية، وأقاموا غرفاً في جميع الجهات، تتوفر فيها كل أدوات الراحة من كراسي وطاولات ومرايا وثريات منذ عهد محمد علي باشا. الغرفة الواقعة على يمين باب العمارة، والغرفة الواقعة في أعلى الزاوية اليسرى كبيرتان وبمقياس واحد، والغرفتان الأخريان صغيرتان وبمقياس واحد".

أما حديقتا النزهة والشوكاني فيصفهما بقوله: "حديقة النزهة من حدائق خديوي مصر، قاموا ببناء عمارات أمام باب الحديقة وبمسافة مناسبة على طرفي الطريق، منها علوي ومنها سفلي، وكلها كانت في غاية الجودة، وعملوا على بناء ليوان مسقوف على امتداد الجهات الأربع يحمي المتنزهين أثناء التجوال في موسم الأمطار، فتبدو وكأنها مكتملة الإعداد. أسكنوا ولي عهد الحكومة النمساوية الذي وصل بعدنا بثلاثة أيام في هذه الحديقة. أما حديقة الشوكاني الشاسعة والمنمقة فتعود ملكيتها لرجل فرنسي عقيم، يتم الدخول من الحديقة الأولى إلى الحديقة الثانية، وفيها شوارع وأشجار ورياحين من كل الأنواع، واستحدثوا وسطها جبلا اصطناعيا يبلغ ارتفاعه اثني عشر ذراعا، وفيه سقيفة ذات طبقات".

المتحف
يختتم حسام السلطنة جولته في معالم القاهرة بزيارة المتحف الذي يقول إنه من إنشاء محمد علي باشا عام 1837؛ وإن عمارته لم تكن كبيرة من حيث المساحة، لكنها تضم عدة غرف متداخلة تحتوي التماثيل الإنسانية والحيوانية، والأدوات المصنوعة من الذهب والنحاس والحجارة، وشتى المعادن لا يتسع المجال لذكرها.

ويضيف: "هناك عدة صناديق خارج الغرف مصنوعة من حجر النحاس، وقد رأينا في الغرفة الأولى بقرة منحوتة من الحجارة، وإلى جانبها تمثالان لرجل وامرأة، والتماثيل الثلاثة في غاية الإتقان. أما الأجساد التي قيل إنه تم إخراجها من الأهرام، فقد أسندوها على الجدران في الغرفة الرابعة، كانوا يفرغون الكافور ومواد التحنيط ومواد أخرى بين الكفن والجسد لئلا تتلف أعضاؤه، ويقومون بتغطية الكفن بالكرباس وشريط عريض ملفوف من الساق حتى العنق، ويرسمون شكل الميت من رأسه حتى أخمص قدمه على التابوت، ثم يضعون التابوت في تابوت حجري آخر أكبر من الأول. وكان السلطان عبد العزيز قد حلّ الشريط من أصابع إحدى المومياءات حين قدم مصر عام 1279هـ/ 1862م، فبقيت مفتوحة على حالها وما زال الإصبع الذي تحول إلى اللون الأسود يحتفظ بالأظفر". وبعد ذلك يعود حسام السلطنة إلى الإسكندرية ويغادرها إلى إسطنبول على متن سفينة نمساوية، قبل أن يعود إلى بلاده.

المساهمون