استمع إلى الملخص
- تعكس قضية صنصال أزمة ثقافية في الجزائر، حيث تتداخل الأبعاد السياسية والثقافية، مع صراع إعلامي بين الجزائر وفرنسا، مما يبرز التوترات المستمرة والتحديات في بناء هوية ثقافية مستقلة.
- الأزمة الثقافية تتطلب تحرير الفكر من القيود الأيديولوجية، وتطوير فكر ليبرالي يواجه التحديات بعقلانية، بعيداً عن التخوين والقمع، لتعزيز قدرة المجتمع الجزائري على مواجهة المستقبل.
"أحدثَ قادةُ فرنسا مشكلة عندما ضمّوا كلّ الجزء الشرقي من المغرب إلى الجزائر عند احتلالها"... "محافظات وهران وتلمسان ومعسكر كانت تابعة للمغرب"... "فرنسا لم تمارس استعماراً استيطانياً في المغرب لأنّه دولة عريقة... من السهل جدّاً استعمار أشياء صغيرة لا تاريخ لها".
يمكن نسب هذه الجمل إلى تلميذ في الإعدادي لم يراجع دروس التاريخ والجغرافيا. لكنّها صدرت عن بوعلام صنصال، الكاتب الجزائري المجنَّس فرنسياً منذ وقت قريب، على قناة "Frontières" (حدود) اليمينية المتطرّفة الفرنسية على "يوتيوب"، مروّجاً، بحماس قلّ مثيله، للفكرة النازية القديمة الجديدة "الهجرة المضادّة"، والتي يمكن تفسيرها بأكثر الكلمات بساطةً: "عودة الفرنسيّين المسلمين إلى بلدانهم الأصلية". ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ صاحب رواية "قَسَم البرابرة" (1999) هو عضوٌ في الهيئة الإدارية لهذه القناة التي كثيراً ما تحالفت مع إريك زيمور؛ مؤسّس "حزب الاسترداد" (Reconquête) "النيونازي"، كما تصفه العديد من الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية.
إثر تلك التصريحات الهزيلة والمثيرة للسخرية، أوقِف صنصال في مطار الجزائر العاصمة يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وقالت السلطات الجزائرية إنّها اعتقلته بموجب "المادة 87 مكرّر" من قانون العقوبات الذي يدين "كلّ عمل يستهدف أمن الدولة وسلامة أراضيها واستقرارها وسير مؤسّساتها بشكل طبيعي" باعتباره "عملاً إرهابياً أو تخريبياً".
أزمة الثقافة في الجزائر ليست هوياتية، بل تحرّرية
"استهداف أمن الدولة"، و"المساس بالوحدة الوطنية والسلامة الترابية"... هذا ما سمعناه مراراً وتكراراً من طرف الكثير من السياسيّين والصحافيّين والمعلّقين الجزائريّين، حتّى من بعض الكتّاب الذين لا يكترثون للإخلال بالحرّيات الفردية والحقوق السياسية للمواطن الجزائري.
بعد هذا الاعتقال التعسّفي، لم تدهشني الحملة الشرسة التي شنّها الإعلام الجزائري المعروف بولائه الأعمى لسياسات الحاكم ضدّ صنصال، ولا الصرخات الداعمة له من أصدقائه العنصريّين في فرنسا، لأنّها لم تكن مجرّد تضامُن مع كاتب يصفونه بـ"فولتير الجزائري" و"المفكّر شديد التحرُّر"، بقدر ما حملت طابعاً استعمارياً؛ إذ شُنّت من منابر إعلام اليمين واليمين المتطرّف ضدّ وجود الجزائر باعتباره كياناً سياسياً، وضدّ الجزائريّين كشعب قاوم الإجرام الاستيطاني الفرنسي على مدار أكثر من قرن.
فمن الجهة الجزائرية، حاول الإعلام، على نحو مكشوف، تبرير سجن صنصال بموجب المادّة القانونية المذكورة آنفاً، والتي كثيراً ما استغلّتها السُّلطة لتكميم وتقييد أيّ مناضل أو ناشط ديمقراطي وتقدّمي. ومن الجهة الفرنسية، تحالَف الإعلام المهيمن مع أنطوان غاليمار، ناشر الكاتب المسجون ومُحتكِر ساحة النشر في فرنسا والفضاء الفرنكفوني، في محاولةٍ لا تخلو من الدكتاتورية، لفرض سردية "بوعلام صنصال التقدُّمي والمتنوّر" وتقديمه على أنّه "كاتبٌ معارض للإسلاميّين وللدكتاتورية العسكرية على السواء". ولم تنجُ من هذه السردية جرائد مثل "لِبيراسيون" و"لوموند"، بينما أُوصدت الأبواب الإعلامية ذاتها أمام أصوات جزائرية فرنسية أُخرى لديها وجهة نظر مختلفة لتقول: "نعم، أنا ضدّ سجن بوعلام صنصال وأطالب بإطلاق سراحه، لكن، لن أمتنع عن القول إنّه الوجه الجزائري لليمين المتطرّف الفرنسي".
أنتج الانغلاق ثكنةً ثقافية تتميّز بالتصحُّر الفكري
قوبل كلُّ من عبّر عن وجهة النظر هذه بوابل من الشتائم. هذا ما حدث مع المؤرّخ والكاتب الفرنسي الجزائري نجيب سيدي موسى عندما صرّح على قناة "فرانس 5"، أنّ وصْف صنصال بـ"الكاتب والمفكّر التنويري والمناضل من أجل حرّية التعبير وحقوق الإنسان" لا يستند إلى أيّ أساس واقعي، بل هو مجرّد هراء وتواطؤ مع اليمين المتطرّف تذرّعاً بحجّة التنوير المزيَّف وبـ"شجاعة" قائمة على اجترار مسوّغات الأيديولوجيا الاستعمارية الفرنسية الهمجية في الجزائر وسائر المستعمرات السابقة.
وفي ظل الهرطقات الإعلامية المضلِّلة التي شخّصها بدقّة وإسهاب الكاتب والناقد النمساوي كارل كراوس في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بدا محيّراً الانعدام شبه التام لتشخيص الهشاشة الثقافية في الجزائر، والتي أدّت بالعديد من كتّابنا إلى التزاحم من أجل نيل رضا السلطة، سواء في باريس أو في الجزائر العاصمة، والغرق في رجعيات "غربية" و"مشرقية" من أجل اكتساب "شرعية" أدبية سرابية.
المقالات المُحتشمة التي كُتبت حول اعتقال بوعلام صنصال من بعض الكتّاب الجزائريّين لا تُحلّل ولا تعطي أيّ معنى لمضمون خطابه السياسي المُسمّى "أدبيّاً" ضدّ وجود الجزائر دولةً مستقلّة بأبعادها العربية والأمازيغية والإسلامية، ولا تنتقد الممارسة غير الديمقراطية المتمثلة في اعتقاله. هذا التضاؤل الفكري يُعبّر عن الأزمة الثقافية الحادّة التي تُحنّط العلم والأدب والفنّ في الجزائر. فمن دون أيّة مبالغة، يمكن القول إنّ بعض الممارسات الثقافية والأكاديمية في البلاد تشبه ممارسات ثكنة عسكرية يُفكّر ويُبدع الناس فيها ضمن "ثوابت وطنية" و"قيم دينية" شديدة التصلّب.
عدم وجود صحافة حرّة، وجامعات ومراكز بحث مستقلّة، ودُور نشر ومجلّات قادرة على نحت وصقل لغة تحرّرية تُشخّص آلام واستعجالات الواقع وتُواجِه الشعبويات الوطنية والسلفية التي تدّعي الألوهية؛ أدّى إلى عسكرة نقاش الأفكار في فضاء الإعلام والثقافة والبحث العلمي.
و"حادثة" بوعلام صنصال، بهذا المعنى، هي إهانةٌ لا تُطاق للشعب الجزائري الذي تعتبره السلطات شعباً غِرّاً غير قادر على مناقشة أفكار رجعية في قمّة التفاهة ونقدها بأسلوب عقلاني وساخر ممّن يرى في مدح الاحتلال والعنصرية فلسفة. فمرّةً أُخرى، لم تُعطَ أيّةُ أهمّية لكفاءات المؤسّسات التربوية في مواجهة ظواهر كبوعلام صنصال. فهذه الممارسة غير الديمقراطية هزيمةٌ أُخرى تأتي بعد هزائم التقويض المؤسّساتي لصفوف حراك 2019 الشعبي والسلمي.
لقد أنتج الانغلاق الثقافي والسياسي في الجزائر ثكنةً ثقافية تتميّز بالتصحُّر الفكري واللغوي وتكامُل الرجعيات الفرنسية والجزائرية، ليبقى المواطن الجزائري البسيط أعزل ومُهمّشاً في زمن حافل بالهشاشة. أناس يكتبون بالفرنسية من أجل تمجيد "إنجازات الاستعمار" الخيالية، وآخرون يكتبون بالعربية من أجل تبجيل ممارسات رجعية، وتذكيرنا بصفة ببغائية أنّنا "أمّة إسلامية طاهرة" و"عربية أصيلة" و"ثورية مجيدة"، من أجل طمس الإرث التقدّمي والكوزموبوليتاني للنهضة العربية.
أزمة الثقافة في الجزائر ليست هوياتية، بل تحرّرية: تحرير اللغة العربية من نهب السلفية الدينية والقومية المتحجّرة؛ وتحرير اللغة الفرنسية من ممَجّدي بربرية الحقبة الكولونيالية؛ وتحرير النقد الفكري والسياسي من ثقافات التخوين والإقصاء تذرّعاً بـ"حبّ الوطن" و"الوفاء لأرواح شهداء ثورة نوفمبر المجيدة" و"التصدّي لمؤامرات حزب أولاد فرنسا".
يجب على جيل كاتب هذه السطور الذي مكّنته المؤسّسة التربوية الجزائرية من تعلُّم العربية والفرنسية والإنكليزية، وحتى الأمازيغية، أن يكافح من أجل فكر ليبيرالي على المستوى السياسي والثقافي، والاتفاق حول لغة رافضة وداحضة للغة تشكيك الجزائري بوجوده، لغة الهلع والقلق الهوياتي وثقافة الالتفات إلى الوراء والغرق في مستنقعات ماضٍ لا يزداد إلّا شراهةً واستماتةً من أجل إلغاء الحاضر والمستقبل.
أخيراً، فإنّ التعامل بمنهجية عقلانية وبراهين علمية متينة مع كتّاب يصطنعون سجالات لغوية عقيمة ومشاكل هوياتية سريالية وأحداثاً تاريخية خُرافية جُنِيَت من مراجع الكولونيالية الدموية خَيرٌ من التخوين والسجن وإذلال الإنسان.
* كاتب وصحافي جزائري مقيم بباريس