استمع إلى الملخص
- في ألبانيا، ترجم جون شلاكو "الإلياذة" في سجن بوريل خلال النظام الشيوعي على ورق أكياس الإسمنت، ونجح في تهريب أعماله خارج السجن.
- بعد إطلاق سراحه، نشر شلاكو ترجماته باللهجة الألبانية الشمالية وساهم في إعداد قواميس لغوية، وتم تكريمه بعد سقوط النظام الشيوعي.
تُرجمت "إلياذة" هوميروس إلى لغات كثيرة في العالم، وقد تعدّدت ترجمتها في اللغة الواحدة بحُكم صلة المترجم باللغة اليونانية القديمة التي كُتبت فيها أو الاستعانة بالترجمات الأُخرى، ولذلك يمكن القول إنّ لكلّ ترجمة قصة. ومن ذلك الترجمة العربية التي أنجزها الشاعر والأديب اللبناني سليمان البستاني بشعر عربي موزون في القاهرة عام 1904، بالاعتماد على الترجمة الفرنسية مع عودته إلى الترجمتين الإنكليزية والإيطالية وحتى تعلّمه لليونانية خلال عمله الذي استغرق قرابة عشرين سنة. وبعد ثلاث ترجمات عن الإنكليزية، صدرت في القاهرة عام 2004 ترجمة نثرية عن اليونانية مباشرةً لأحمد عثمان وزملائه من المختصّين بالأدب الكلاسيكي القديم.
أمّا قصة ترجمة "الإلياذة" في ألبانيا المجاورة لليونان، فهي تختلف بوجود العارفين باللغة اليونانية القديمة والحديثة، والتداخل في الجغرافيا والتاريخ، ولكنّها وُلدت في أسوأ سجن بألبانيا خلال النظام الشيوعي (1945 - 1991)، وهو سجن بوريل (91 كيلومتراً شمالي تيرانا) الذي كان يُضرب به المثل للمعارضين في سوء المعاملة. ومع ذلك فقد أُتيح فيه لرجل دين ألباني جاء لتوّه من روما بعد إكمال دراساته العليا ليُحكم عليه بالسجن المؤبّد في ذلك السجن، أن يقضي سنوات سجنه فيه بما يمكن أن ينقذ روحه، وذلك بالانشغال بكتابة وترجمة المسرحيات، وهي الموهبة التي بدأت لديه مبكراً.
كتب شلاكو نصوصه وترجماته على ورق أكياس الإسمنت
بُني هذا السجن سيئ السمعة خلال العهد الملكي (1928 - 1939)، وافتتحه رئيس الحكومة كوتشو كوتا عام 1938. ولكن بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحُكم في 1945 اعتُقل وأُرسل إلى السجن نفسه حيث مات هناك عام 1949. والموت في هذا السجن كان بطيئاً من سوء التغذية، إذ كانت الوجبة اليومية خلال سنتَي 1946 و1949 تقتصر على 400 غرام من الخبز فقط، ولذلك مات فيه نحو 300 من السجناء.
من رجل دين إلى مترجم للأدب الكلاسيكي
رجل الدين المقصود هو جون شلاكو Gjon Shllaku (2003 - 1923) الذي وُلد في عائلة كاثوليكية معروفة بشمال ألبانيا. وبعد إكمال تعليمه الابتدائي التحق بمدرسة الفرنسيسكان في مدينة شكودرا التي شجعته على تعلّم اللغات الأجنبية والترجمة منها، حتى أنه ترجم رواية "بن هور- حكاية عن المسيح" للروائي الأميركي لو والاس التي نُشرت عام 1880 وحظيت بشهرة كبيرة. وخلال 1935 - 1945 تابع دراساته العليا في اللاهوت والفلسفة في المعهد البابوي بروما؛ حيث تعمّق في معرفة اليونانية واللاتينية، بالإضافة إلى الفرنسية، وقرأ هناك مؤلفات كبار الأدب الكلاسيكي القديم مثل هوميروس وإسخيلوس ويوربيدس وغيرهم.
ولكن مع عودته إلى ألبانيا في صيف 1945 بلباس رجل الدين، كان الحزب الشيوعي قد أحكم قبضته على البلاد وبدأ في حملة شملت رجال الدين والمثقفين. وهكذا اعتُقل جون شلاكو مع العشرات في كانون الأول/ديسمبر 1945، وبعد تحقيقات ملفّقة قُدّم إلى المحاكمة في الشهر نفسه من عام 1946، إذ حُكم عليه بالسجن المؤبد بتهمه انتمائه إلى جماعة "الاتحاد الألباني"، وأُرسل لقضاء محكوميته في سجن بوريل الذي كان يُعتبر من أسوأ السجون في ألبانيا.
صدرت أوّل ترجمة عربية مباشرة عن اليونانية في 2004
ولأنّ السجناء كانوا من "المعارضة السياسية"، أي من المثقّفين، فقد عرف هؤلاء كيف يقاومون مصيرهم فيه لكي يبقوا أحياء متأهبين لاستمرار دورهم بعد خروجهم منه. كان بعضهم يعلّم الآخر ما يعرفه، كاللغات الأجنبية، أو يكتب أشعاراً وقصصاً وروايات ويحفظها في ذهنه ويردّدها كي لا ينساها إلى أن يخرج من السجن ليكتبها فوراً. ولدينا من ذلك أمثلة عديدة لا تُصدَّق عمّا أنجز بعضهم في السجن ونشره بعد سقوط النظام والإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين بقوا على قيد الحياة.
مارس شلاكو في سنوات سجنه التأليف والترجمة؛ فقد ترجم ملحمة هوميروس "الإلياذة" على قطع من ورق أكياس الإسمنت الذي كان يُستخدم في السجن لأغراض أُخرى، كما ترجم غيرها من المسرحيات الكلاسيكية. وبالإضافة إلى ذلك، كتب مسرحية تاريخية بعنوان "اسكندر وزليخة" تقوم على علاقة حب بين إسكندر ابن أحد أمراء الألبان (جون كاستروتي) الذي أُرسل رهينةً إلى مدرسة البلاط في العاصمة العثمانية أدرنة وبين زُليخة ابنة السلطان مراد الثاني، وهي العلاقة التي تتدخل فيها الكثير من المكائد لتحول بينهما إلى أن تتعرض للقتل. وفي الفترة التي يتلقى فيها دعوة من بلاده لإنقاذها ويلبّيها لكي يشتهر بعد ذلك باسم "إسكندر بك" ويصبح لاحقاً بطلاً قومياً لألبانيا. وقد تمكّن شلاكو الذي بدأ هذه المسرحية في 1950 وأكملها في 14 آذار/مارس 1953 من تهريبها خارج السجن، وهي المخطوطة الوحيدة التي نجت بالوصول إلى الخارج.
سنوات الحرية التي عوّضت ما فات
في عام 1957، أُطلق سراح جون شلاكو بعد عفو عن بعض المعارضين. وكغيره من المعارضين الذين كتبوا وترجموا وأبقوا في ذاكرتهم ما قاموا به، كانت سنوات الحرية دافعاً له لاستذكار وتدوين ما أنجزه في السجن. وهكذا بدأ شلاكو أوّلاً في تدوين ترجمته لملحمة "الإلياذة" من اليونانية القديمة، والتي نُشرت لأوّل مرة في 1965 باللهجة الألبانية الشمالية (الغيغ) ثم أُعيد نشرها في 1975 باللغة الموحدة التي أصبحت واحدة للألبان في الشمال والجنوب وفي ألبانيا وكوسوفو، كما أنجز ترجمة لثلاث مسرحيات لـ يوربيدس ومسرحية إسخيلوس "برموثيوس المقيد" ومسرحية فرجيل "الإنيادة". ولم يكتف شلاكو بذلك، بل كان في سباق مع السنين لتعويض سنوات السجن وترجم سبع مسرحيات لشكسبير عن الإنكليزية.
مع تقديره للترجمة ومعرفته للغات الكلاسيكية، رأى شلاكو أن يساعد الجيل الجديد على الترجمة، فتفرغ عدة سنوات لوضع قاموسين كبيرين: قاموس يوناني قديم - ألباني من 20 ألف كلمة، وقاموس لاتيني - ألباني من 65 ألف كلمة.
رغم كل هذه الإسهامات، لم يقدَّر حقّ جون شلاكو إلا بعد سقوط النظام الشيوعي؛ إذ كرّمته الحكومة الألبانية الديمقراطية في 1995 بالوسام الذهبي الذي يحمل اسم الشاعر الألباني نعيم فراشري الذي عُرف أيضاً بمعرفته لعدة لغات (اليونانية والفرنسية والتركية والعربية والفارسية) ومؤلفاته الكثيرة، كما كرّمته الحكومة اليونانية بـ"جائزة القرص الذهبي".
مع التحول الديمقراطي في ألبانيا برز جيل جديد من المتخصّصين في التاريخ والأدب الإغريقيين، وصدرت ترجمتان جديدتان للإلياذة. أمّا الأُولى فقد أنجزها المؤرخ والمترجم إيليا بالاوري (1950) وأصدرها في مجلدين عام 2013 وأتبعها في 2017 بإصدار "الأوديسة" في مجلدين أيضاً، وهو الأمر الذي تفرغ له أيضاً الكاتب والمترجم لامبرو روتسي (1946 - 2018)، ولكن ترجمته لـ"الإلياذة" و"الأوديسة" صدرت بعد وفاته واحتفت بها "أكاديمية العلوم الألبانية" بعد أكثر من نصف قرن على صدور الترجمة الأُولى التي تبقى لها قيمتها.