استمع إلى الملخص
- النظام السياسي الغربي يظهر عنجهية وظلامية بتغاضيه عن الجرائم ضد الفلسطينيين، مما يعكس سقوطًا أخلاقيًا رغم التقدم العلمي والمعرفي.
- الأمل معقود على صمود الشعب الفلسطيني في غزة، الذي يواجه الجوع والظلم بكرامة وصبر، مع تطلع لتحقيق نصر في المستقبل رغم التحديات.
"الجوع كافر"، أذكرُ هذا المثل الشعبي من طفولتي في غزّة. أذكره الآن وتكادُ النفس تنفجرُ حزناً على الجوع الذي يضربُ أعماق البطون في غزّة. هذا الجوع، سلاح "إسرائيل" الذي يشبهُ قُبحها وساديتها، يؤلم. حتى التفكير في هكذا مآلٍ حيثُ يتضوّرُ الناس جوعاً وعطشاً لأن قوة مفبركة اسمها "إسرائيل"، مدعومة من وحوش كاسرة في المنظومات السياسية الغربية، وخصوصاً في أميركا، يجعلُ الإنسان يفكرُ في هجران الإنسانية. ما الفائدة؟
أصومُ هذه السنة على وجه الخصوص تضامناً والتحاماً مع الأهل والناس في غزّة. لقد فجعنا، وفُجعت أنفسنا كثيراً من تكرارِ الفقد وتواليه، ومن شدة القسوة وتعاظمها. يزداد طعمُ الحياة مرارة حدَّ عبث الوجود على وَقعِ ما يحدثُ لأهلنا وناسنا في غزّة. أنحنُ أحياء حقاً حين نرى ما نرى؟ ألم يقل عمر بن الخطاب: "لو كان الجوع رجلاً لقتلته"؟ كم يتعمّق الألم والفناء أمام الجوع، وخواءُ المعدة وخجل الجسد من الإحساس بالفراغ، وتيه فتات العقل في ملكوت اليأس. فقط سمو الروح يحفظُ جذوة المعنى أمام التآكل الجسدي وجفافه.
النظام الغربي الذي تقعُ "إسرائيل" في صلبه أسوأ من القرون الوسطى
الخجل ليس لمن هم جوعى وعطشى، بل لمن فرض عليهم هذه الطريقة القروسطية الظلامية من الحلول لاقتطاع تنازلات للاحتلال ورعاته من الحوش العالمي. إنَّ الجوع الذي تفرضه "إسرائيل" وأميركا على غزّة بسيطرتها التامة على كل منافذها ورفضها التام لدخول الطعام والشراب وأساسيات الحياة يجبُ أن يكون عاراً ما بعده عار. لكن في هذه الإنسانية والتوحش المتصاعد من قاع جهنم في أميركا و"إسرائيل" لا نسمعُ كثيراً عن الجوع في غزّة في الإعلام الغربي. وكأن المشاعر الأساسية في الحق في الحياة والإنسانية لأكثر من مليوني إنسان غبارٌ في مكانٍ بعيد لا يستحقُ الذكر أو الاهتمام. وكأن إمكانيّة موت أكثر من مليوني إنسان بسبب هذه الجريمة التي تعدُ من أقذر الجرائم لن تغير شيئاً من الخطاب العالمي السياسي والثقافي الذي يتصدره الغرب.
في الحقيقة إن مجرد الأمل في أن تصحو ضمائر الساسة هنا هو عبثٌ محقّق. والواقع أن محتوى النظام السياسي الغربي الذي تقعُ "إسرائيل" في صلبه هو أسوأ من القرون الوسطى والظلام من حيثُ عنجهيته وصلفه وضرّره. فهنا دولٌ متطوّرة علمياً، ووسائل المعرفة لديها كثيرة ودقيقة، ومع هذا يغضون الطرف عن تجويع متعمّد وعن سبقِ إصرار بعدما نادى به كثير من الإسرائيليين ليل نهار بوقاحة المتغطرسين الهمج، ولا شيء يتغير. بل يقف رئيس الوزراء الكندي السابق جاستن ترودو الذي رحلَ للتو ليكرر فخره بالصهيونية ويعلن الولاء بأنه صهيوني.
عن أي عصور ظلام من الممكن أن نتحدث ونحن في قلبِ عصرٍ ظلامي يُقتلُ فيه الأطفال بأعداد هائلة ويفرضُ فيه الجوع والعطش على ملايين الناس ويحلُ التعتيم الإعلامي وأي حديث عن هذه المأساة؟ نحن الآن في قلبِ الظلام الأسوأ مما حلَّ في رواية جوزيف كونراد، التي أتت تحت نفس المسمى، والأسوأ من عصور الظلام الغربية.
إن السقوطَ الأخلاقي الذي يشهده العالم الذي يتحكمُ فيه حفنة من العفن البشري، بدءاً من نتنياهو إلى ترامب وسفلةٍ آخرين هو سقوط مدوٍّ، وستتبعه سقطات أخرى قد نرى نهاية كثير من المجتمعات أو البشرية على أثرها، وفي ذلك ذروة العار والبهيمية والغباء البشري الذي سمح لأمثال هؤلاء أن يتصدّروا مشهد الحكم وإدارة شؤون الناس والبشريّة المترهلة. ويبقى الصبر والشرف والسمو لغزّة ولفلسطين ولأهلها وهم يرون ويجاهدون بأمعائهم الخاوية وأجسادهم الهشّة وأرواحهم، علَّ النصر يبزغ من دياجي الظلام والظلاميّة الصهيونية وأتباعها والخانعين لها أينما كانوا.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن