جمهورية الموز

16 فبراير 2025
مبانٍ مدمَّرة في حيّ جوبر الدمشقي بفعل قصف النظام السوري، 6 شباط/ فبراير 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نشأ مصطلح "جمهورية الموز" في أوائل القرن العشرين لوصف الدول التي تعتمد على تصدير سلعة واحدة، غالبًا الفواكه، تحت نظام دكتاتوري مدعوم غربيًا، وانتشر عبر الأدب ليعكس واقعًا مشابهًا لبعض الدول العربية مثل سوريا.
- في سوريا، أصبح الموز رمزًا للطبقية الاقتصادية والاجتماعية، حيث كان يُعتبر رفاهية في الثمانينيات والتسعينيات، مما جعله مؤشرًا على الوضع الاقتصادي للأسر.
- مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، عاد الموز ليكون مؤشرًا على الفقر، رغم انخفاض أسعاره، وظلت "فوبيا الموز" في اللاوعي الجمعي للسوريين.

درَج مصطلح "جمهورية الموز" منذ بدايات القرن العشرين للدلالة على الدول (في أميركا الوسطى والجنوبية خاصة) المعتمِدة اعتماداً شبه كليّ على تصدير بضاعة بعينها (الفواكه في الغالب)، واستيراد كل ما عدا ذلك، مع وجود احتلال غربيّ، بالتوازي مع نظام محلّيّ قمعيّ دكتاتوريّ. يرحل الاحتلال العسكري الصريح ويبقى الاحتلال الاقتصادي الذي يربّي قادة محليّين على هواه بهدف إبقاء الهيمنة.

وصل إلينا المصطلح من الروايات قبل أن يصلنا من الفضاء السياسي-الاقتصادي. تلك أيام حمّى روايات أميركا الجنوبية التي أصابت الجميع بلا استثناء، وأطاحت بكل القراءات الأُخرى. لم يكن الأمر محض استعارة أجواء كما كانت عليه الحال مع الأدب الروسيّ، إذ استوردنا أشجار البتولا إلى رواياتنا على حدّ تعبير عبد الرحمن منيف. كانت حُمّى من نوع آخر، حُمّى تماهٍ مُطلق. تلك البلاد البعيدة، جمهوريات الموز تلك، لا تُشبهنا وحسب، بل هي نحن ولكن بلا موز. موزنا قمح وقطن وربّما شيء من نفط.

في سورية كان للموز معنى آخر قريب وبعيد في آن. بل لعلّ الموز في ذاته يصلح أن يكون مفتاحاً لفهم سورية منذ أواخر الثمانينيات وصولاً إلى منتصف التسعينيات مع ارتدادات لاحقة. كان الموز (وما يزال بنسبة معقولة) بورصة طبقية اقتصادية اجتماعية في آن. بعد إفلاس الدولة والعقوبات الاقتصادية أواخر الثمانينيات، اختفت سلع كثيرة من السوق. علب المناديل كانت رفاهية يُضرَب بها المثل، ولكنّ الموز بالذات كان عالماً آخر؛ مَن يعرف الموز، ومَن أكل الموز، هو سوريّ مختلف بالمطلق عمّن لم يدخل الموز بيته.

لم يستعيدوا ابتساماتهم إلا بانخفاض سعر الموز بعد سقوط النظام

سلعة أكبر بكثير من أن نصفها بالرفاهية. هي الذهب أو ما يعادله. انتشرت حكايات كثيرة عن قهر الآباء والأُمّهات ودموعهم حين يطلب أحد أطفالهم موزة يدرك الأهل أنها ستلتهم نصف أو أغلب أو ربما كلّ ما يمتلكون من مال شحيح أصلاً. كان الموز مؤشراً اقتصادياً اجتماعياً دقيقاً: الطبقة الفقيرة لا موز لها، الطبقة الوسطى تتعامل بأجزاء الموزة حين تُقسِّم الموزة الواحدة على طفلين أو ثلاثة أو أربعة، وحتى الطبقة الغنية (التي لم تكن تشكّل نسبة كبيرة أصلاً في سورية حافظ الأسد) ما كانت تعرف الموز كغيره من الفاكهة.

بعد البحبوحة الاقتصادية النسبية، تلاشى الذُّعر السوريّ إلا حيال الموز بالذات. حتّى بعد أن بات في متناول الطبقة الوسطى وبعض الطبقات الأدنى، صار الموز أشبه بـ"تابو". يتباهى كل بيت حين يقدّمون الفاكهة لضيفهم بتاج الموز الذي يعتلي كل شيء: نحن لسنا جياعاً، فلدينا الموز. ويأكل الضيوف من جميع أنواع الفاكهة باستثناء الموز: نحن لسنا جياعاً كي نهجم على الموز، لأننا نعرفه ونعرف مذاقه. كانت تنبيهات الأهل صارمة للأطفال: كُلْ ما تشاء عند الناس باستثناء الموز كي لا يظنّوا أننا أدنى منهم.

ترسّخت العادة لدينا، نحن الجيل الذي وُلد قبيل الأزمة الاقتصادية وأثناءها، ولم نعد نمدّ أيدينا إلى الموز إلا حين نكون في بيتنا أو بين "شلّة" تعرفنا ونعرفها. فالموز للجوعى، للفجعانين الذين لم يروا موزاً في حياتهم. وانتشرت عادة في بعض المدن حين تُؤكَل الموزة ملفوفة بالخبز مثل أي سندويش كي يشبع الطفل من موزة واحدة.

مع الانهيار الاقتصاديّ الذي أوصلَ تسعين في المئة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، عادت بورصة الموز تُكشّر عن أنيابها من جديد. ولم يستعِدْ السوريون ابتساماتهم إلا حين انخفضت أسعار الموز بعد سقوط النظام. يفرح معظمهم مع أنهم لا يدركون المعاني الضمنية للموز، إذ وُلدوا بعد سنوات الرماد في الثمانينيات بكثير. بدا وكأنّ فوبيا الموز، أو تابو الموز، ينتقل بالجينات، ينتقل في اللاوعي الجمعيّ، مثله مثل فوبيا المرتفعات وفوبيا الأماكن الضيّقة وفوبيا العتمة.

الغريب أنّ الموز لم ينتشر في الأدب السوريّ. ربّما لأن أمكنة الأدب اقتصرت على المقاهي والشوارع وعلى طبقة مثقّفة يهمّها الكلام أكثر من الطعام. في واقع الحال، ليس هناك اهتمام كبير في الأدب السوريّ بالطعام، ولعلّ الكتّاب ظنّوه إسفافاً يُخلّ بسموّ الأدب. ولكنّ الطعام أكثر بكثير من كونه حشواً لبطن أو مصران، كما يقول المثل السوريّ. هو حياة كاملة، حياة أجيال عديدة من السوريين يخشون التابو ولو لم يدركوا معناه.
 

* كاتب من سورية

المساهمون