جمال الإسكندرية.. المدينة الكونية تسحر ولي عهد النمسا

جمال الإسكندرية.. المدينة الكونية تسحر ولي عهد النمسا

18 سبتمبر 2021
صخب الحياة فاجأ الأمير النمساوي (Getty)
+ الخط -

في مطالع عام 1881 قام ولي عهد الإمبراطورية النمساوية – المجرية الأمير رودولف برحلة إلى الشرق، زار خلالها مصر وفلسطين، ودوّن وقائعها بأسلوب أدبي رفيع، عبر عن ثقافته العالية وموهبته في الكتابة، وقدرته على رصد أدق التفاصيل. وقد أشار الأرشيدوق النمساوي إلى المعجزة التي حققها الخديوي إسماعيل الذي كان يبني دولة عصرية تضاهي كبريات المدن الأوروبية في ذلك الزمن، وقدم وصفاً لمدينة الإسكندرية التي كانت في ذلك الوقت نمراً اقتصادياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، جذبت إليها الكثير من المهاجرين الأوروبيين والسوريين من الحالمين والطامحين لتحقيق ثروات سريعة، وكل ذلك بفضل ما كانت تقدمه من تسهيلات تجارية، في ظل مناخ من الحرية عزَّ نظيره في جميع دول الشرق آنذاك.

صدرت ترجمات كثيرة لهذه الرحلة باللغات الأوروبية، كما صدرت لها في القاهرة ترجمة عربية من الألمانية مباشرة عام 1995 للمترجم الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ بثلاثة أجزاء، جزء عن الإسكندرية والقاهرة، وجزء عن الرحلة إلى الصعيد والبحر الأحمر، وجزء عن الشام والأراضي المقدسة.

من فيينا إلى الإسكندرية
في التاسع من شهر شباط / فبراير 1881، وكان الجو بارداً والجليد يغطي الطرقات، انطلق الأمير رودولف على متن قطار في رحلته من فيينا إلى سفينته الملكية ميرامار القابعة في ميناء تريستة على شاطئ البحر الأدرياتيكي، والذي كان نمساوياً يومها، قبل أن يصبح إيطالياً بعد الحرب العالمية الأولى.

وبعد وصف أدبي رفيع لمشاهداته البحرية، يعلن الأمير في يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير، عن الوصول إلى الساحل المصري الذي يشبهه بتلال رملية ترتفع هنا وهناك على شكل كثبان صفراء، شكلتها الرياح. ويضيف أن المآذن الباسقة والمنارة وبعض طواحين الهواء خارج المدينة تلوح للبصر من بعيد، قبل أن ينبثق من بين الأمواج قصر مصطفى باشا، نائب الخديوي، كأنه قصر خيالي من الشرق البعيد. وفي ذلك يقول: "الآن أصبح وصولنا إلى الإسكندرية حقيقة واقعة، فاتجه أحد القوارب نحو سفينتنا بعد أن رفع مرشدنا العلم ليحدد للقارب هدفه (..) لقد هدأنا من سرعتنا وتسلق المرشد السلم بهدوء ووقار، وبعد أن تبادلنا التحية، حبس في مكانه عند عجلة التوجيه، وتم ربط قاربه بالحبال بسفينتنا. وتقدمنا نحو قناة حجرية ضيقة تصل للميناء القديم".

عند عبور الأمير رودولف من جانب كاسر الأمواج أُطلقت المدافع تحية له، وعزف السلام السلطاني العثماني، ثم النشيد الخديوي. ولاحظ الأمير وجود عدد كبير من النمساويين الذين كانوا يعيشون في الإسكندرية بحثاً عن التجارة الآمنة، كما يقول. ويضيف: "لقد أحسن الخديوي صنعاً بوضعه بعض عرباته في خدمتنا. لقد كانت العربات وكذلك الخيول إنكليزية، أما الخدم فكانوا من دون استثناء فرنسيين، وكان زيهم أوروبياً تماماً ليس فيه من الشرق إلا الطربوش. أما خارج العربات فكان هناك من يركضون دائماً أمامها وهم يصيحون بلا كلل ولا ملل، وكانوا يلبسون ملابس غريبة بأكمام واسعة بيضاء وفي أيديهم هراوات طويلة، وكانوا نحال البنية وأقدامهم رشيقة. ولم نعرف فائدتهم إلا عندما مررنا بالأحياء العربية الضيقة في الإسكندرية، فبدون هؤلاء كان سيتعذر مرورنا إلا بصعوبة بين هذا الحشد من البشر والأنعام، بل كنا سنضطر للتوقف كثيراً".

دهشة وتناقضات
وتصيب الدهشة الأرشيدوق بعد خروجه من المناطق المحيطة بالميناء، إذ يفاجأ بصخب الحياة، ومختلف الوجوه والأزياء من الحمالين، إلى المكارية، إلى الباعة المتجولين والفلاحين، ذوي الجلابيب الزرق، والنسوة بملابسهن الفارهة وقد وضعن على رؤوسهن زينات ذات طابع قديم، كما يقول، والمتسولين المصابون بالعمى بعصيهم الطويلة.

يقول واصفاً المنظر الذي رآه في الحي التقليدي: "دهشنا غاية الدهشة من الأتراك وأبناء آسيا الصغرى بسبب ملابسهم زاهية الألوان، لقد كانوا مختلفين تماماً حتى في طريقة التعبير عن العرب، وكانت جلودهم أقل خشونة ودكنة، فالعربي الحقيقي داكن اللون وله ملامح جميلة ونبيلة، وشكله رقيق لكنه مفعم بالرجولة. والعربي وإن كان أرقى من اليهودي بكل المقاييس، إلا أنه يشبهه بشكل واضح لا تخطئه العين، والفلاحون الذين يزرعون التلال ليسوا عرباً خلصاً، إنهم أقرب شبهاً بالمصريين القدماء، وأظن أنهم السكان الأصليون لمصر".

بعد أن تعبر العربات به وبصحبه الشوارع الشرقية يصلون إلى الجانب الأوروبي من الإسكندرية، حيث الشوارع العريضة والمنازل الجميلة على الطراز الأوروبي والمحلات الواسعة، ويقول إن "للإسكندرية هذه الشخصية تماماً، فرغم انتظام شوارعها وجمالها، إلا أن شيئاً ما عالق بها يعد غريباً بالنسبة لنا، فالقذارة والإهمال والفوضى التي لفتت النظر للمدن العربية لا تنفي أن هذه المدن تحذو حذو العمارة الغربية وتحاكيها محاكاة كاملة، فأنت تحس في كل خطوة تخطوها بوجود الغريب الذي يسعى لوضع أثره على العالم الأجنبي. تغطي الرمال القادمة من الصحراء المدن ذات الطابع الأوروبي، وتجعل وجوه الأجانب الطامعين بالكسب شاحبة".

ويضيف قائلاً: "إن الشوارع ذات الطابع الأوروبي مفعمة بالحياة والنشاط، فالناس لهم منظر الجنس المختلط، بشكل يفوق الوصف، بحيث يمكن وصفهم بأنهم شرقيون. إن ملامحهم خليط من ملامح الإيطاليين واليونانيين والأرمن والأتراك، وكلهم يلبسون اللباس الأوروبي، إلا أنهم يضعون فوق رؤوسهم الطرابيش. بالإضافة إلى ذلك فقد رأيت أزياء دلماشية وألبانية، بالإضافة إلى أزياء آسيا الصغرى".

رحلة إلى شاطئ الرملة
بعد ذلك يحدثنا الأمير رودولف عن رحلة بالقطار انطلقت من المحطة الجنوبية في الإسكندرية، حيث كانت الترتيبات والحافلات تذكره بإنكلترا في كل شيء عدا بعض الإهمال. يقول: "لقد سار بنا القطار على طول الكثبان الرملية التي كانت تفصل البحيرات عن البحر في منطقة الرملة، وهي المنتجع الصيفي لأثرياء مصر وموضع سباحتهم، ويرى المرء هنا وهناك خاصة بالقرب من الإسكندرية كثباناً من رمال الصحراء الصفراء، وتناثرت على طول هذه الكثبان خيام الغجر والبدو، وجمال واهنة، وحمير ناهقة، وأكواخ أقامها العرب، وقبور كئيبة، إلا أن معظم هذه الكثبان قد تحول إلى حدائق، وأقيمت عليها الفيلات الباسمة".

لم يطل مكوث الأمير وصحبه طويلاً في الرملة، فقد عادوا بعد عشر دقائق بالقطار التالي، ويشير إلى أن هذه الرحلة القصيرة أظهرت للغريب كيف أن الجهد البشري يمكن أن يحيل أكثر الأراضي قفراً إلى فردوس. وأثناء عودتهم كان القطار يسير بجوار ترعة المحمودية إلى الحديقة العامة التي تسمى جنينة المنتزه. لقد كان الطريق بهيجاً رأى فيه الأمير رودولف علية القوم في عرباتهم التي تجرها الخيول، متجهين إلى الحدائق الغناء، حيث كانت نسائم المساء المنعشة تهب، وكان هناك رجال ونساء من أكثر الطبقات فقراً وهم يتوضؤون بمياه الترعة المحمودية ويؤدون صلواتهم على ضفتي الترعة، وقد ولوا وجوههم صوب مكة المكرمة.

جنينة المنتزه وعمود بومباي
في وصفه لجنينة المنتزه يقول الأمير رودولف: "هي ذات بهاء وفخامة، ولها الطابع المداري لحدائق مصر، فروائح المطيبات تملأ الهواء، والزهور المتفتحة اليانعة تسر عيون الأجانب، وراحت الفرق العسكرية تعزف أجمل الألحان، وراح عديد من الأوروبيين يسيرون في الممرات الظليلة. وقد زرنا في حي النزهة أجمل بيوت الحي إنها فيلا الثري اليوناني أنطونياديس، لقد كانت للفيلا حديقة يحيط بها سور متين، ووحد سخاء المناخ الإفريقي بين الفن والطبيعة في ثوب واحد قشيب، وكانت الفيلا نفسها جميلة منسقة، وبذل بانيها قصارى جهده ليكون جوها من الداخل بارداً، وقد سمح مالكها لنا تفضلاً منه بزيارتها".

عاد الأمير وصحبه إلى الإسكندرية عبر طريق محفوف بالشجر على الترعة، ثم مروا إلى جوار أرض فيها عمود بومباي الشهير الواقع خارج الإسكندرية، وقد لفت نظره الطريق الذي سلكوه، إذ وجد فيه ما ذكره بوطنه النمسا، أما الأحياء المجاورة فذكرته بالمدن الشرقية، وكذلك الموجودة في أوروبا الشرقية ذات الطابع المشابه من حيث صغر المنازل والأحياء والإهمال.

ويشير الأرشيدوق إلى وجود تل اصطناعي في طرف المدينة ينتصب فوقه عمود بومباي الأثري، المكون من قطعة حجرية واحدة يبلغ ارتفاعها ثلاثة وستين قدماً، وفي منتهاه تاج كورنثي كان يحمل فيما مضى تمثال الامبراطور الروماني دقلديانوس. ويصعد الأمير وصحبه إلى هذا التل ويمتعون نظرهم، كما يقول، بالمنظر، فقد كانت الإسكندرية تمتد أمامهم، وقد لبست غلالة من ضوء ذهبي، ويمتد البحر إلى شمالها، وتمتد الكثبان الرملية وبحيرة مريوط إلى جنوبها الشرقي.

وقد وصف لنا المنظر بلغة شاعرية: "كانت الشمس تغرب وظهر قرصها واهناً بين الهواء المعبأ بالأتربة والسخونة، فبدت خجلى واهنة، كالشمس في أيام بلادنا الضبابية. وكانت السماء، من ناحية الغرب، مزدانة بألوان خصبة وثرية، برتقالي وأحمر وأزرق وكل لون منها واضح وغير متداخل مع الألوان الأخرى، وكلها جميعاً تسبح في نور ذهبي. أما من جهة الشرق فقد كانت السماء قد تدثرت بظلال زرقاء، وظهرت مقدمات المساء، وكان يمكن رؤية نجوم متألقة هنا وهناك، فالشرق وحده، ومصر خاصة، مشهور بأضوائه وظلاله التي تترك في النفس فعلاً كفعل السحر".

بعد جولة في المناطق المحيطة بهذا التل، عاد الصحب إلى الإسكندرية من خلال باب محرم بيك، والذي كان يمثل تحصيناً للمدينة فيما مضى، وكان الليل قد هبط حيث لاحظ المير أن الحركة زادت في ساعات المساء عنها في ساعات النهار، وازدادت الضوضاء. مشيراً إلى أن ذلك يتناقض مع طبيعة الليل الذي يجب أن يتسم بالسكون، حيث بقيت المحلات مضاءة والمقاهي مفتوحة، ولاحظ أن أسماء المحلات والمقاهي في الحي الأوروبي مكتوبة إما باليونانية أو الفرنسية أو الإيطالية، قبل أن يعود وصحبه إلى سفينتهم ميرامار ويناموا فيها ليلتهم.

إلى القاهرة
في صباح اليوم التالي، يوم 19 شباط/ فبراير غادر الأمير وصحبه سفينتهم الملكية، وودعوها، فلن يعودوا إليها بعد وقت قصير كما يقول. ويضيف إن بارجة احتفالية مصرية خاصة بالخديوي أوصلتهم إلى البر، وكانت هذه البارجة مزينة ومعدة على نمط شرقي، فكل ما فيها كان أحمر اللون، من ملابس البحارة إلى المقاعد والمظلات.

ينطلق الأمير رودولف وصحبه من الميناء إلى محطة القطار حيث احتشد النمساويون لوداعهم، وعزفت الموسيقى السلام الإمبراطوري النمساوي، وفي غضون دقائق كانوا قد غادروا المحطة. ويقول في ذلك: "لقد وضع الخديوي قطاره الخاص في خدمتنا، بما في ذلك العربات الواسعة الخاصة به، وكان في القطار عربة مكشوفة في الوسط، وثمة ممرات جيدة تمكن المرء من الانتقال من أقصى القطار إلى أدناه. لقد كان في القطار بالإضافة إلى مجموعتنا، البارون شيفر وأعضاء القنصلية النمساوية، والبارون ساورما، وعبد القادر باشا مسؤول الشؤون الخارجية المصرية، ومصطفى باشا وبعض المصريين، ومسؤولو إدارة السكك الحديدية، وعلى رأسهم زمرمان، وهو رجل فرنسي متحضر، ويحظى بقبول كبير، وقد شملنا برقة غير عادية".

الصورة
الأمير رودولف (Getty)
الأمير رودولف (Getty)

كان القطار سريعاً فلم يتمكن الأمير من إلقاء نظرة على الأماكن الجديرة بالرؤية كما يقول، ويضيف أن طريق القطار كان في البداية على طول حافة تفصل بين بحيرات مريوط السبخة، ومياه أبي قير، فالمساحات العريضة لهذه المسطحات المائية كانت مغطاة بطيور الماء من مختلف الأنواع، وعلى الشواطئ الرملية كانت ثمة طيور مالك الحزين السوداء برقابها الممتدة. بعد برهة من هذه المناظر تركوا خلفهم مياه شمال الدلتا وسبخاتها ليمعنوا النظر بالأراضي الخصبة كثيفة الزروع، ففي كل مكان كانوا يرون الحرث وحقول القمح الواسعة، وغابات من أشجار القطن، وقنوات عميقة وجسوراً عالية، وتناثرت أشجار النخيل هنا وهناك، وكذلك البساتين الكثيفة، والقرى ذات المباني الطينية، وقد سمقت في سمائها المآذن.

لقد مر القطار على جسور وحقول فيها فلاحون يحرثون وآخرون مشغولون عند السواقي، ونسوة بجلابيبهن الزرق يسرن إلى جوار قوافل الجمال الفخورة، وقد أمسكن بأيديهن أطفالهن العراة. ويقول: "تعبر أسر البدو الأراضي المزروعة وهم في طريقهم من صحراء إلى أخرى، سواء كانوا سائرين على أقدامهم أم يمتطون الخيول، أما البدويات فيركبن الجمال، إن هؤلاء البدو ذوو أحجام ضئيلة، ومع هذا فهم معتزون بأنفسهم ونزاعون للاستقلال. لقد رأينا العرب الخلص والبرانس البيضاء والخيول الجميلة والبنادق الطويلة، والسيوف المعقوفة، والعمائم، وطواقي الفلاحين البسيطة، والماعز طويلة الوبر، والكلاب الشبيهة بالذئاب، وحمير الفلاحين السوداء التي اعتراها الهزال جنباً إلى جنب مع البغال والحمير البيض والسود التي تبدو عليها النعمة والعلف الجيد، والتي أعدها أصحابها الأثرياء للركوب..". بعد ذلك يبدأ الأمير رودولف بوصف المدن التي يتوقف القطار في محطاتها إلى أن يبلغ القاهرة، وللقاهرة حديث آخر لا يقل تشويقاً عن حديث الإسكندرية.

زواج وانتحار
ولد ولي العهد النمساوي الأمير رودولف في قلعة لاكسينبورغ بالقرب من فيينا، وهو الابن الوحيد للإمبراطور فرانز جوزيف الأول، والإمبراطورة إليزابيث البافارية. وقد أطلق عليه اسم أول ملك من سلالة هابسبورغ رودولف الأول. وكانت رحلته هذه، والتي صدرت طبعتها الأولى في عام 1884، قبل زواجه من الأميرة ستيفاني ابنة ملك بلجيكا ليوبولد الثاني بشهرين فقط، ولكن زواجه لم يكن سعيداً، إذ سرعان ما كرهها وأراد الطلاق منها، غير أن والده الإمبراطور رفض بشدة، وهو ما أدخله بحالة من الكآبة، خصوصاً بعد أن وقع في غرام البارونة ماري فون فيتسيرا البالغة من العمر 17 عاماً، حيث اتفق معها على الانتحار سوية، ونفذا هذا الاتفاق، حيث عثر على جثتيهما في نزل للصيد كان يملكه، وقد أكدت أوراق سرية للبارونة فيتسيرا عثر عليها في عام 2013 قصة الانتحار المتفق عليه.

المساهمون