تُعلّمنا غزّة

23 يناير 2025
مواطنان فلسطينيان يتعانقان بالقرب من مبان دمرتها الغارات الإسرائيلية جنوب غزة، (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- غزّة، بعد مواجهة عدوان استعماري غير مسبوق، تبرز كرمز للبقاء والبهاء، مقدمة دروساً في الإنسانية المهشمة، ومؤكدة على سموّ أخلاقها وإصرارها على الحياة رغم الدمار والكراهية.

- مقاومو غزّة، بشجاعتهم الفائقة، واجهوا جيشاً مدججاً بأحدث الأسلحة، محققين نصراً أخلاقياً، وملهمين العالم بروحهم التي تجاوزت حدود المألوف، ليصبحوا معجزات أمام جحيم النيران.

- غزّة تُعلّمنا أن الإنسان أكبر من البراهين المرئية، وأن روح الإنسان هي منبع المعرفة، حيث امتزج الدم بالدمع، لتكشف عن عالم الأحلام وسط الأهوال والجراح.

بينما تقف غزّة لتلتقط بعض الأنفاس بعد أكبر عدوان استعماري عرفه التاريخ الحديث، يهرول جيش الجريمة الصهيوني الغربي باتجاه مخيّم جنين ليكرّس صورة جيش مدجّج بأحدث أسلحة الإبادة من الأيديولوجيات البهيمية إلى السلاح الجهنّمي الذي يشبه أرواحهم الشريرة.

غزّة، التي وضعت العالم أمام صورة لم يسبق أن رآها، خرجت من بين ركامها ورمادها تمارس البقاء والبهاء، وتُطلق دروساً جديدة في فنّ الإنسانية المهشّمة، فغزّة جديرة بأن تكون الملحق الأسمى في التاريخ بعد شريعة حمورابي السامية في بلاد الرافدين.

راحت غزّة تزغرد وتقرع الطبول وتبكي وتتعالى أصواتها محتفلةً بنصر إرادتها على جيش من صلبِ أفسدِ الأيديولوجيات الاستعمارية على وجه الأرض.

وغزّة لم تنتصر لأنّها حرّرت وتقدمت وتخلّصت من الاحتلال، بل انتصرت بسموّ أخلاقها، بإصرارها على الحياة وسط كلّ علامات الموت والدمار والكراهية التي صبت حمم سعارها على مدار مئات الأيام والليالي رأت خلالها جهنّم بشرية كما لم يرها بشرٌ قطّ من قبل.

غزّة لم تنتصر لأنّها كانت دائماً على صواب، بل لأنّها أمعنت في طريق الصواب بعدما تكالبت عليها مخالب الشرّ، وتعاظمت عليها المحن، فلم تجد بدّاً من مواجهة مصيرها. قاتلَ مقاوموها بشراسة الجبّارين، معتصرة أجسادهم حرارة وتجربة كلّ زمن وكلّ مكان. لقد ظهروا كالمعجزات أفراداً وجماعات أمام جحيم النيران والدبابات والطائرات، ودكّوا العدو وقبّحوا وجهه حتى علت هاماتهم واكتمل صفاؤهم، وكأنّ مفهوم توازن القوّة وتجنّب التهلكة خُلق لمن جُبلت قلوبهم على الجبن الأبدي. وكأنّ أهل غزّة خُلقوا للتوّ لخلقِ التاريخ الأسطع لهم ولأمّتهم وللغتهم.

غزّة هي أكبرُ مختبر للمعرفة في طبائع البشر ومصائرهم وأرواحهم

تُعلّمنا غزّة، وهي بلا شك أكبرُ مختبر للمعرفة في طبائع البشر ومصائرهم وأرواحهم في العصر الحديث، أنّ الإنسان أكبر من فكرة تختزلها البراهين والدلائل المرئية، وأنّ روح الإنسان هي منبع المعرفة الأساسي، من صناعة المسمار إلى خلقِ عالم قيامي من جناحِ فراشةٍ مكسورة.

غزّة لم تنتصر من جسارة أو هشاشة، بل من اندفاعٍ تجاوزَ حدود المألوف. لقد اقتربت غزّة من سدرة المنتهى في صدور أبنائها وبناتها، فرأت نور صدقها وعدالة رسوخها على أرضٍ خُضّبتْ بدموع الآباء والأمهات والأطفال، وامتزج الدم مع الدمع لدرجة التماهي حتى سقط قناع الواقع، رغم كلّ الكوابيس، فتراءى عالم الأحلام بسعة نوره وتجلّيات أقداره.

لم تنتصر غزّة لأنّنا نُسخّر لها لغة نصرٍ تليق بجرحها، بل لأنّها إرادة الوجود تلتفُّ حول النفس بكامل مراياها المكسورة لتهمس بها: ارقدي في الإشراق من حلمٍ ستتفجر أنواره من كلّ الآلام والعذابات والجراحات وأشباح البيوت والأشجار التي ستلاحق أشرار الصهاينة، لأنّ نورها من نورِ المقاومين فيها، والباقين فيها، والراقدين تحت ركامها حتى آخر رمقٍ في الوجود.

والسلام في نهاية المطاف هو حنان الأرض بكافّةِ أوجاعها وكراماتها على أصحابها وهُم يمشون فيها نحو مجدٍ يؤنس أرواحهم وسطَ عظمة الأهوال وأكثر الجراح إيلاماً.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون