تونس.. الكتاب في مهبّ قانون الشيكات

20 ابريل 2025
رجل يتصفّح كتباً في "مغارة علي بابا" للكتب المستعملة، تونس العاصمة، 2020 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني صناعة الكتاب في تونس من هشاشة وتداخل في الأدوار بين المؤلفين والناشرين والمكتبيين، مما يحد من انتشار الكتب محلياً ويقلص دور "معرض تونس الدولي للكتاب".
- تطبيق "قانون الشيكات" الجديد أثر سلباً على التعاملات المالية، حيث يحرم المكتبيين والناشرين من استخدام الشيكات المؤجلة، مما دفع بعض المكتبات لإطلاق حملات مساندة.
- التعديل القانوني يعكس صراعاً بين السلطة وكارتلات البنوك، ويثير تساؤلات حول قدرة صناعة الكتاب على الصمود في ظل التحديات الاقتصادية والعزوف عن القراءة.

تُعاني سلسلة إنتاج الكتاب في تونس هشاشةً مزمنة وتداخلاً في الأدوار، فلا المؤلّف يعرف أين يقف دورُه بعد الكتابة، ولا الناشر متفرّغ للانتقاء والتحرير والتدقيق، ولا حتى المكتبيّ قادر على التوفيق والإلمام بمتطلّبات السوق وبين توفير الجديد والوفاء بالتزاماته تجاه الموزّعين. هذا الوضع جعل من مشهد الكتاب في البلاد غارقاً، ولعقود، في المحلّية والضيق، كما حدّ من دور "معرض تونس الدولي للكتاب"، الذي ستُعقد الدورة التاسعة والثلاثون منه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري.

ضمن هذا الإطار، يرى الكثير من المعنيّين بـ صناعة الكتاب أن هذه الأزمة على وشك أن تتفاقم، لتجعل جهود الصمود والاستمرار في هذا الميدان أقرب إلى المستحيل، وذلك بسبب "قانون الشيكات" الجديد، الذي دخل حيّز التنفيذ في 2 فبراير/ شباط الماضي، ويهدف بحسب السلطات إلى "الحدّ من جرائم الشيكات بدون رصيد".

يمثّل الدفع بالشيكات المؤجّلة الوسيلة الأكثر تداولاً بين المكتبيِّين والناشرين والموزّعين من جهة، وبين المكتبة وبعض العملاء النهائيّين من جهة أُخرى، والشيء نفسه ينطبق على التعامل بين دور النشر وأصحاب المطابع. لكن بعد هذا القانون الأخير، فإن صاحب المكتبة لم يعد متاحاً له أن يحجز طلبية كُتب من الموزِّع إلا إذا كان حسابه البنكي يحتوي على المبلغ المُعادل لها، فتُحرم بذلك المكتبة من الأشهُر المعدودة التي كان يُمهلها إيّاها المزوّد إلى حين بيع قسم من تلك الكتب، قبل أن يُصرف الشيك، فضلاً عن خسارتها لشريحة هامّة من العملاء الذين اعتادوا شراء الكتب عبر وسيلة الدفع هذه، التي تُمكّنهم من ملء سلّة مشترياتهم بالكتب التي يرغبون، وإرجاء الدفع حتى آخر الشهر أو إلى أن يقبضوا مرتّباتهم.

يحرم القانون المكتبيِّين والناشرين من الدفع بالوسيلة الأكثر تداولاً

هذا الطارئ الجديد دفع بدر الدين الدبوسي، صاحب مكتبة "بهجة المعرفة"، التي تنشط منذ سنة 1974، إلى إطلاق حملة مساندة لإنقاذ المكتبة، عبر شراء كتاب منها، وذلك بعد أن تهاطلت عليه الشيكات، التي كانت بحوزة المزوّدين ولم يحن موعد صرفها بعد، بحسب الرزنامة التي دأب على العمل وفق مواعيدها، منذ استلامه المكتبة من والده. يقول الدبوسي لـ"العربي الجديد": "معظم المزوّدين لم يتوانوا في صرف الشيكات التي بحوزتهم، وهم لا يُلامون في ذلك، إذ إن المُهلة التي أعطتها الدولة لتسوية وضعيات الشيكات بالصيغة القديمة كانت قصيرة جداً، ما ينمّ عن سوء تخطيط وعدم دراية بخصوصيات سوق الكتاب والعمل الثقافي بصفة عامة".

في السياق ذاته، تواصلت "العربي الجديد" مع بسمة كريم العامري، صاحبة مكتبة ودار نشر "جليس كوم"، التي تحدّثت بتشاؤم عن الأثر الكارثي لهذا القانون الجديد، والذي ستظهر مفاعيله السلبية أكثر في "معرض تونس الدولي للكتاب" (بين 25 إبريل/ نيسان والرابع من مايو/ أيار المُقبل)، وفقاً للعامري، التي تستشرف أن قسطاً كبيراً من عائداته ستتبخّر بسبب حرص القارئ والتزامه بالميزانية التي تسمح بها الدولة، معرّجة على الخسائر التي تكبّدتها الدار بالفعل، بشرائها حقوق طبعات مشتركة مع دور عربية كبيرة، وخوفها من عدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاهها، ما سيضرّ في النهاية بصورة الناشر التونسي لدى نظرائه من البلدان العربية.

يكمن الأصل في هذا التعديل الذي أحدث رجّة في الاقتصاد التونسي عموماً، والمشتغلين في الكتاب بشكل خاص، في ما يعتبره البعض صراعاً كان خفيّاً ثم بدأ في الظهور بين السلطة القائمة، وبين ما اجتمع مساندوها على تسميته بـ"كارتلات البنوك"، حيث تسعى السلطة إلى تحميل البنوك، المملوكة لطُغمة من رجال الأعمال والعائلات المعروفة، نصيباً أكبر من المسؤولية تجاه ضبط التعاملات المالية بالشيك، من خلال إرساء ما سمّته رئاسة الجمهورية "توازناً منشوداً بين حرّية المَدين وحقّ الدائن ومسؤولية المصرف".

غير أن هذه القراءة للأمور لا تصمد كثيراً أمام الوقائع والتصريحات لمسؤولين في الدولة وفي الهياكل الجامعة للبنوك والمؤسسات المالية الأُخرى، لعلّ أهمّها محافظ البنك المركزي فتحي النوري، والرئيس الشرفي لـ"الجمعية التونسية للنهوض بالثقافة المالية" أحمد كرم، التي تُظهِر توافقاً بين هذه المؤسسات من جهة والدولة التونسية من أُخرى، حول الإدماج بالقوة لقيمة الشيكات التي كانت متداولة بين الناس دون سلطة حقيقية للبنوك عليها.

ويُحاجج الباحث في الاقتصاد وليد بسباس أن هذا الإدماج القسري يأتي كخطوة نهائية من قِبل المؤسسات المالية الدولية المخترِقة للإدارة التونسية، بعدما فشلت محاولات تدريجية سابقة من أجل أمْوَلة الاقتصاد التونسي، أي ترجيح كفّة السوق المالية على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى. وهو رأي على قدر كبير من الوجاهة، وخاصة أنّ الكلام الآن عن وسائل دفع إلكتروني آجل، بصدد الدراسة لتكون في متناول المستهلك التونسي قريباً، ما يثبت أن لُبَّ القانون الجديد هو جعل القطاع المالي يستفيد من كلّ عمليّة اقتصادية مهما بلغ صغرها.

يرى مهندسو هذا التشريع أن آثاره القريبة قد تكون صادمة على المدى القريب، لكنها ستكون ذات نفع أكبر في المستقبل، لكن لنا أن نسأل: هل يمكن لصناعة الكتاب في تونس، التي تكابد أصلاً الأوضاع الاقتصادية والعزوف عن القراءة، أن تصمد لترى هذا المستقبل، وأن تقتطع جزءاً من قيمتها وتسلّمه طوعيّاً للبنوك أو للدولة؟