تفاعل المشهد الثقافي الإسباني مع حرب الإبادة على غزة
استمع إلى الملخص
- انقسم المشهد الثقافي والسياسي في إسبانيا بين اليمين الذي برر العنف تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، واليسار الذي دعا إلى "حل الدولتين"، متجاهلين السياق الأعمق للصراع.
- شهدت الساحة الثقافية الإسبانية تكثيفاً في الإصدارات حول القضية الفلسطينية، مما ساهم في تشكيل فهم أعمق لجذور الصراع.
لم يكن ذلك النقاش الذي اندلع في مطلع الخريف الإسباني لعام 2023، بعد موسم المعارض الأدبية، لغوياً فحسب، كما أنه لم يكن وليد المشهد الإسباني الثقافي أو السياسي الداخلي. لقد جاء من وقع القذائف التي كانت تنهال على غزّة، بعد أحداث السابع من أكتوبر، ليفتح في المشهد الإسباني سؤالاً وجودياً: كيف وماذا يمكن تسمية ما يحدث في غزّة؟ هل هو حرب؟ مجزرة؟ مقاومة، أم إرهاب؟
هذا السؤال أعاد، بشكل أو بآخر، صياغة علاقة الشارع الإسباني بالتاريخ والراهن معاً. فكما ارتبط تاريخ البلاد بغرنيكا بيكاسو التي صارت رمزاً عالميّاً للدمار والظلم والفاشية، ما كان يحدث في غزة منذ بداية العدوان وإلى اليوم، يبدو أنه أدى الدور نفسه في الذاكرة الإسبانية المعاصرة، لتغدو مرآة تعكس صراعاً داخلياً بين ثقافة حيّة لا تخشى تسمية الأشياء بأسمائها، وخطاب سياسي متردّد بين التضامن الإنساني والمصالح الاستراتيجية.
وعي شعبي يسبق السياسة
ما يميز إسبانيا في السياق الأوروبي أنّ وعيها الشعبي والثقافي تقدّم على خطابها الرسمي، وربما هو الذي دفع، بشكل أو بآخر، كي يكون الأكثر تقدّماً على دول الجوار. فبينما بقيت عواصم مثل برلين وباريس ولندن أسيرة قيود ذاكرة الهولوكوست، التي تجعل من أي نقد لإسرائيل منطقة محرّمة، استطاع المجتمع الإسباني ــ طلبة ومثقفين وفنانين وحركات مدنية ــ أن يوسّع أفق المقارنة ويجرؤ على ربط ما يحدث في غزة بتاريخ طويل من الاستبداد والحروب والاستعمار الذي عاشته إسبانيا ذاتها.
الوعي الشعبي والثقافي تقدّم على الخطاب السياسي الرسمي
هكذا تحوّلت الكلمات نفسها، بعد الأشهر الأولى، إلى ساحات قتال. فكلُّ توصيف حملَ موقفاً، وكل مفردة أو مصطلح حدّدت انتماء صاحبها. ومنذ السابع من أكتوبر 2023، أخذ الخطاب الثقافي الإسباني حول فلسطين يتشكّل كاختبار للثقافة السياسية، لا كمجرد موقف من صراع بعيد.
يمينٌ يبرّر القتل ويسارٌ يُجمّل
منذ اللحظات الأولى، انقسم المشهد الثقافي والسياسي والإعلامي في إسبانيا إلى سرديتين متقابلتين شكلياً، لكنهما متقاربتان في الجوهر. سارع اليمين - حدث دون حرج عن اليمين المتطرف وخصوصاً حزب فوكس- بقيادة الحزب الشعبي، إلى تبنّي لغة "الحرب على الإرهاب"، مقدّماً إسرائيل بوصفها درعاً غربيةً ضدّ "التهديد الإسلامي"، في استعادة لخطاب ما بعد 11 أيلول. هذا الخطاب السياسي في البرلمان الإسباني، رافقه خطاب ثقافي مماثل ساند إسرائيل في ما ترتكبه من جرائم ضدّ الإنسان الفلسطيني وضدّ القيم والمبادئ التي تملأ كتبهم. وقد عبّر عن هذا الموقف الروائي الإسباني أرتورو بيريز ريفيرتي، الذي قال إنّ "الإسرائيليّين، مهما فعلوا، يبقون منّا، ويشاركوننا قيمنا الديمقراطية".
مقابل ذلك، اختار اليسار الاشتراكي لهجة أكثر تهذيباً: الإدانة المبدئية لهجوم حماس، تأكيد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ثم الإحالة الدائمة إلى "حل الدولتين" بوصفه الأفق السياسي الوحيد الممكن.
لكن كلا الخطابين تجاهل السياق الأعمق: سبعة عقود من الاحتلال والحصار ونظام فصلٍ عنصريٍّ مستمر. وبذلك بدا أن الاختلاف بين الطرفين كان حول اللغة التي يمكن بها التخفيف من عبء الضمير الأوروبي.
الإعلام ومعركة السردية
على وقع هذا الخطاب السياسي، فُرِز كذلك الخطاب الثقافي. ورسم بعض المثقفين الإسبان من خلال مقالات رأي سياسية وثقافية في صحف مثل "ABC" و"الموندو" و"الإسبانيول" صورة لإسرائيل كحصنٍ للديمقراطية في مواجهة "الظلامية الإسلامية"، على خلفية مشاهد الدمار في غزة التي حوّلها إلى خلفيةٍ لملحمة "مكافحة الإرهاب".
اختلاف حول اللغة التي يمكن بها التخفيف من عبء الضمير
أما مقالات الرأي فقد تجاوزت الوقائع لتضع الهجوم الإسرائيلي في مستوى أحداثٍ مفصلية مثل 11 سبتمبر، مؤسّسة بذلك سردية دينية-أمنية عن "حرب الحضارة". أما الاشتراكيون، فحاولوا من خلال منابرهم، وأبرزها "الباييس"، العزف على وترٍ أكثر إنسانية من خلال مقالات الرأي. فتحدّثوا عن ضرورة حماية المدنيين، وعن التزام إسبانيا "بحق الفلسطينيين في الدولة". غير أن الوقائع السياسية والاقتصادية والديبلوماسية كشفت الوجه الآخر للخطاب: صفقات السلاح لم تتوقف، والتعاون الصناعي مع إسرائيل استمرّ، حتى أثناء انضمام إسبانيا رمزياً إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد الإبادة. إنها ازدواجية كلاسيكية في اليسار الأوروبي: التعاطف الإنساني في الخطاب، والتواطؤ العملي في السياسة.
كتب تستحضر الذاكرة
بين هذين الخطابين، قد يكون أحد أبرز ملامح المشهد الإسباني الثقافي هو تكثيف الإصدارات التي تناولت القضية الفلسطينية بجدية تحليلية وتوثيقية خلال السنوات الأخيرة. دوريات ودور نشر إسبانية بارزة أطلقت دراسات وترجمات أطرت ما يحدث ضمن تاريخ طويل من الاستعمار والاحتلال. ولعل أبرز دور النشر كانت دار كاتاراتا، التي نشرت مجموعة من الكتب المترجمة والمؤلفة، كانت من أبرزها الترجمة الإسبانية لكتاب عزمي بشارة "فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة"، وكتاب "بعد الإبادة: المستقبل الفلسطيني المجهول" للأكاديميين خوسيه أبو طربوش وإيسايس بارينادا، و"غزّة: تاريخ نكبة مُعلنة" للباحثين إغناسيو ألباريث أوسوريو ألبارينيو وزميله خوسيه أبو طربوش، إضافة إلى عدد كبير من الكتب الأخرى والمقالات التي أحدثت فرقاً عند القارئ الإسباني، إذ وجد أمامه تقريباً موسوعة مبسطة لفهم جذور الصراع، وللمقارنة بين سرديات الإعلام السائدة وسجلّ الأدلة التاريخي والسياسي الذي تسلّطه الدراسات.
اليوم، وبعد عامين من الإبادة، يُظهر الخطاب الثقافي- السياسي في إسبانيا أنّ الصراع ليس بين دولٍ تتقاتل. إنه، في المقام الأول، صراع سردياتٍ تحاول احتكار المعنى. فبين يمينٍ يُشرعِن القتل باسم "مكافحة الإرهاب"، ويسارٍ يُجمّل التواطؤ باسم الضمير الإنساني"، تظلّ غزة رمزاً للانكشاف الأخلاقي للغرب، ولحدود ثقافته السياسية في مواجهة واقعٍ لا يمكن تبريره. ولا يتعلق الأمر بإسبانيا وحدها. إنها ثقافة المؤسسة الغربية السياسية والثقافية التي ترى في إسرائيل امتداداً لذاتها، وفي فلسطين اختباراً مؤجلاً لإنسانيتها. والحديث بكل تأكيد عن المؤسسات، لا عن الشعوب.