استمع إلى الملخص
- في كتابه "روابط كونية"، يدرس تايلور أعمال شعراء رومنطيقيين وما بعد الرومنطيقيين مثل وردزورث وشيلي، منتقدًا الحداثة لتأثيرها على فهم الحقيقة والمعنى، مما دفع الشعراء للتركيز على الاتصال العميق بالعالم.
- جاءت الرومنطيقية كردة فعل على العقلانية، حيث سعى الشعراء لاستعادة الدهشة والسمو عبر الطبيعة والعاطفة، مقدمين رؤية مناقضة للتصور الميكانيكي للكون، مما ساعدهم على فهم موقعهم في الكون.
تباينت تعريفات الشعر على مرّ العصور، فقد وصفه الشاعر الإنكليزي وليام كولريدج بأنّه "التدفق التلقائي للمشاعر القوية التي تنبع من القلب والعقل"، ورأى فيه شكلًا من التعبير الخيالي المتصل بعمق باللاوعي، والقادر على كشف الحقائق الأعمق عن العالم والطبيعة البشرية". وبحسب تعبيره، "إن الشعر هو أفضل الكلمات في أفضل حلّة تعبيرية"، كما ذكر في كتابه الشهير "محاضرات حول شكسبير" (1811).
أما بيرسي بيش شيلي، أحد أبرز الشعراء الرومنطيقيين، فقد عدّ الشعر قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والسياسي، وآمن بقدرته على تجاوز قيود الحالة الإنسانية وإلهام الأفراد للتوجه نحو المُثُل العليا. رأى في الشعر انعكاسًا للخيال، وأداةً لكشف الحقيقة الباطنية للعالم، وجسرًا يصل بين الروحي والمادي. وقال في كتابه "دفاعًا عن الشعر" (1821) إن "الشعر يرفع الحجاب عن الجمال المخفي في العالم، ويجعل الأشياء المألوفة تبدو غير مألوفة"، كاشفًا بذلك جوهر الواقع بعيون متجدّدة ورؤى تتجاوز الظاهر إلى الأعماق.
بدوره، آمن الشاعر الإنكليزي جون كيتس بأن الشعر يجب أن يستحضر الجمال ويمنح المتعة الحسية، وأن دور الشاعر هو إبداع الجمال بالكلمات، متجاوزًا حدود التجربة الدنيوية. فالشعر، في نظره، قادر على إيصال حقائق فكرية وعاطفية عميقة، ما يستلزم تقبّل اللايقين والغموض دون الحاجة إلى تفسير عقلاني. فالشعر، كما قال في إحدى رسائله، يجب أن يأتي طبيعيًا كما تورق الشجرة ويغرد الطائر.
دراسة الرومنطيقية وتركيز على العلاقة بين الإنسان والطبيعة
أما ستيفان مالارميه، أحد أعظم شعراء المدرسة الرمزية الفرنسية، فقد رأى أن الشعر هو فن الإيحاء والغموض، ووسيلة لتصوير ما لا يوصف، والتلميح إلى ما لا يُقال، بعيدًا عن التعبير المباشر. فالشعر ليس مجرد نقل للمعلومات أو سرد لحكاية، بل لعبة لغوية تستكشف المعنى عن طريق الاستعارة والإيقاع والبنية. لقد عدّه أكثر الفنون فلسفية، فن محاولة قول ما لا يُقال.
في كتابه "روابط كونية: الشعر في عصر خيبة الأمل"، الصادر حديثاً عن مطبعة "جامعة هارفارد"، يبني الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور Charles Taylor على هذه الأفكار وغيرها، حيث يبيّن دور الشعر في عالم يسوده التفكك والانفصال والعزلة الفردية، مسلطًا الضوء على قدرته على إعادة وصل الإنسان بذاته وبالطبيعة.
في هذا السياق، يبدو تايلور وكأنه يستلهم رؤية الفيلسوف الألماني هايدغر، الذي يرى أن الشعر هو أعمق وسيلة يمكن للإنسان عن طريقها التواصل مع الوجود والتصالح معه. فالشعر، بالنسبة لهايدغر، لا يقتصر على كونه ممارسة جمالية، بل هو أداة لكشف حقيقة العالم وكنهه. ويمتلك القدرة على إماطة اللثام عن جوهر الوجود المحتجب، ما يتيح العودة إلى العالم واختباره بصورته الأكثر صدقًا. كما أن الشعر، في نظره، يشكّل جسرًا بين الإنساني والإلهي، وبين الزمني والأبدي، وهو "الطريقة الأمثل التي يمكن للغة من خلالها أن تكشف الوجود"، كما أشار في كتابه "الشعر، اللغة، الفكر".
يتجلّى هذا في أشعار هولدرلين، الذي رأى في الشعر اتصالاً بالمقدّس، وانسجامًا مع النظام الإلهي للعالم. فالشعر، كما رآه، لم يكن مجرد تعبير فني، بل وسيلة لفهم الخارق للطبيعة والتوحّد معه، كما أنه يكشف عن الوحدة الروحية بين الإنسان والطبيعة. وفقًا لهذه الرؤية، فإن الشعراء هم بمثابة كهنة أو أنبياء ينقلون الحضور الإلهي إلى العالم عن طريق كلماتهم. فالشعر، في نظر هولدرلين، هو تجلٍّ للإلهي في هيئة بشرية، ومن خلاله يمكن الكشف عن روح العالم.
ويركز المفكر الكندي في كتابه على دراسة أعمال مجموعة من الشعراء الرومنطيقيين وما بعد الرومنطيقيين، مثل وردزورث وهولدرلين ونوفاليس وشيلي وكيتس وريلكه وبودلير ومالارميه وإليوت وميوش، استناداً إلى فكرة محورية هي أن هؤلاء الشعراء، بعبقريتهم الشعرية، سعوا إلى إعادة وصل الإنسان بالكون، وإحياء العلاقة المفقودة بينهما، واستعادة سحر العالم.
وينتقد تايلور الحداثة والتنوير قائلاً إنهما أثرا في لغتنا وفهمنا للحقيقة والمعنى، ما أدى إلى انفصال اللغة عن الوجود، بعدما انحصرت في إطار الموقف العملي النفعي. أصبحت اللغة أداة تخدم الأغراض الذرائعية وبات تركيز الإنسان منصبًا على إيجاد علاقات سببية فعالة تساعده على تحقيق أهدافه بدلًا من السعي إلى فهم جوهر الأشياء. وهذا تحديدًا ما تمرّد عليه الشعراء الذين يدرسهم تايلور في كتابه، فقد ركّزوا على تجربة الاتصال العميق بالعالم، وعلى تمكين الذات بدلًا من فرض السيطرة على الأشياء. وكان العنصر الجوهري في الحركة الرومنطيقية هو الاعتراف بأن القصيدة، مثلها مثل بقية الفنون، تكشف عن معانٍ عميقة، وتضعنا في علاقة مباشرة مع واقع أعمق، كان سيبقى بعيد المنال لولا الشعر. في هذا السياق، تصبح اللغة الشعرية المفتاح لمعالجة المناخ الثقافي المهيمن الذي طغت عليه خيبة الأمل، حيث تم تهميش العلاقة الحية بين الإنسان والكون.
يدرس تايلور كيف قدّمت الرومنطيقية، من خلال تركيزها على التعبير الفردي والمثل السامية والعلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة إطارًا جديدًا مكّن الشعراء من مواجهة التحديات الفكرية والثقافية التي برزت بعدما فقدت المصادر التقليدية للمعنى؛ مثل الدين والأساطير، قوتها. قدّمت الرومنطيقية استجابة جذرية للتحولات الفكرية العميقة التي أعقبت عصر التنوير وظهور العقلانية العلمية، وأدى هذا التحول إلى ما يسميه تايلور "العالم المفكّك"، عالم لم يعد يُنظر إليه بوصفه مشبعًا بالمعنى الإلهي والغموض.
نقد الحداثة والتنوير وتأثيرهما على فهمنا للحقيقة والمعنى
في هذا السياق، جاءت الرومنطيقية كردة فعل على هذا التفكك، ساعية إلى إعادة سحر العالم عبر التركيز على العمق العاطفي، والجوانب الغامضة للوجود وقوة الخيال والتجربة الفردية. وسعى شعراء رومنطيقيون مثل ووردزورث وكولريدج وشيلي وكيتس إلى استعادة الشعور بالدهشة والسمو في عالم بات يخضع أكثر فأكثر للفهم العلمي والعقلاني. اعتمدوا على الطبيعة والعاطفة والخيال كمصادر لمعنى أعمق، وقدموا رؤية مناقضة للتصور الميكانيكي للكون الذي طرحه عصر التنوير. ذلك أن تركيز التنوير على العقل والتجريبية أدى إلى تفكيك العالم، وحلّت مكان الجوانب المقدسة والغامضة للوجود تفسيرات علمية صارمة. وقد ثارت الرومنطيقية ضد هذا التصور ساعية إلى استعادة الإحساس بالعمق والدهشة، لا سيما في علاقتنا مع الطبيعة.
كان شعراء الرومنطيقية، بالنسبة لتايلور، بمثابة رؤيويين قادرين على النفاذ إلى حقائق أعمق لا يمكن إدراكها من خلال العقلانية وحدها. وأبدعوا شعرًا سعى إلى التواصل مع الكون والطبيعة والقوى الغامضة التي تشكل الوجود البشري وعمل كجسر بين الإنسان والكون، وساعد الشعراء على فهم موقعهم في كون شاسع وغامض والتعبير عن هذا الفهم بطرق تجمع بين التجربة الشخصية والرؤى الكونية.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة