تذكُّر بودلير في بيروت بصحبة أُنسي الحاج

23 فبراير 2025
أُنسي الحاج
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انطلقت الرحلة في سيارة بيجو خضراء إلى "سيتي كافيه" في بيروت، حيث أثار الجو الهادئ تأملات الراوي حول الزمن في الثقافات الشرقية والغربية.
- التقى الراوي بالشاعر أُنسي الحاج، ودار نقاش حول تأثير بودلير على الحداثة الشعرية، حيث أُعجب أُنسي ببودلير واعتبره أبًا للحداثة، مشيرًا إلى أن الشعر يمكن أن يحتوي على العلم.
- اختتمت الليلة بزيارة لوحة تحمل أسماء الأدباء، مما أضفى شعورًا بالانتماء، واستعاد الراوي ذكرى تلك الليلة في أمستردام، متأملًا في دمج الشعر والعلم.

انحدرت بنا السيارة البيجو الخضراء التي أقلّتنا: سيمون فتّال وإيتل عدنان وأنا، إلى الساحة التي أمام "سيتي كافيه" في بيروت. توقّفت في المنحدر الخفيف. كنتُ أجلس إلى جانب السائق، الذي وبمجرد توقُّفه نزل على عَجَل ليفتح الباب لسيمون وإيتل. نزلتا شبه كسولتين منها وسارتا نحو القهوة من دون أن تلتفتا إلى السيّارة ولا إلى السائق. وشعرتُ أني في عصر آخر، كانت شمس بيروت قد خفّ وهجُها؛ وهي الآن تنحدر نحو الغروب. بدت حركة الشارع هي أيضاً بطيئة. وجوهٌ نعسانة كما لو أنّ هؤلاء الذين يتحرّكون من حولي لم يستيقظوا بعد من إغفاءة الظهيرة.

لعلّ هذا ما جعل الرحّالة الغربيّين ينتقدون علاقة الشرقيّين بالزمن. وهُم لا يدرون أن ثمّة زمناً آخر في الثقافات الأُخرى. وتأثّر نزار قباني بهذه الرؤية الغربية لمفهوم الزمن عند المشارقة، وكتب تلك القصيدة الرائعة "خبز وحشيش وقمر". حضرتني نصوص بيير لوتي، ولامارتين، وغوستاف فلوبير، وتيوفيل غوتييه. كُتّابٌ مولعون بشرق رومانسي خيالي، كانت حملتهم مراكب البخار "الميساجيري روايال"، مراكب البريد لذلك العصر التي ركبها رامبو إلى الإسكندرية وبورسعيد.

كانت تلك الليلة أول وآخر مرّة ألتقي أُنسي الحاج فيها

كنتُ كما لو أني في اللامكان، بيروت الشاطئ السوري الذي يصل بلاد العرب بالعالم البيزنطي اللاتيني، وهي مثل إسطنبول وأثينا تعيش في مكان متخيّل. عندما أمرُّ في ظلال تلك البيوت بشُرفاتها ذات العمد والأقواس والمقرنصات الخشبية في تلك الشوارع الضيّقة في رأس بيروت قرب البحر، أخال نفسي في أحياء إسطنبول العثمانية. من دون أن أكون هناك... وأنا أفكّر في شرق مُتأورب. كنتُ هناك وسط القهوة تحت مزيج من الأنوار الكهربائية وضوء الليل الغسقي المتسرّب من الخارج. وسمعت اسم بودلير. وأنا لا أدري من أين تتأتّى هذه القدرة التي لدى بودلير على أن يَظهر في لغات وثقافات مختلفة؛ يظهر  بتلك النظرة السوداء الكئيبة نفسها التي يبدو عليها في الصور الفوتوغرافية التي أخذها له صديقه "نادار". كان بودلير حاضراً معنا ذاك المساء في بيروت تحت مصابيح قهوة "سيتي كافيه" البرتقالية الصغيرة. 

لا أدري أكانت إيتل عدنان هي التي استحضرته أم أُنسي؟ ولكنّي سمعت أنسي الحاج وهو يتكلّم عن بودلير بإعجاب كبير، ويكرّر بودلير هو أبُو الحداثة الشعرية. كان يتكلّم في ثقة كبيرة تبدو بنظرته الهادئة وبؤبؤي عينيه الأسودَين الثابتين وراء زجاج النظّارة، ممّا يُضفي على تعبيره عن أفكاره نوعاً من الحَسم. قال وهو يوجّه إليّ الكلام بودلير أكبر شاعر في العصر الحديث، وهو أمر يتنافى مع عالم الشعر. ظللتُ أتأمّله وهو يرسل إثباتاته الشعرية. كانت أول مرّة ألتقي فيها أُنسي الحاج أتذكّر الطَّقم الأزرق الليلي والقميص السماوي، وحركته الأنيقة وهو يسحب الكرسي ليجلس إلى الطاولة المُحاذية لطاولتنا جوار إيتل عدنان، ويتبادل التحيّات والمجاملات معها ومع سيمون.

كنتُ قبل سنواتٍ طوال قرأتُ له ديوان "لن"، ولم أفهم أن يكون حرف النَّصب عنواناً لكتاب شعري، في تلك الفترة من أول السبعينيات محكوماً بقواعد الشعر الصارمة التي في جوهرها منافية للشعر. كان أُنسي مرَّ بتونس آخر الستينيات أو بعدها والتقى الكاتب التونسي محمد المصمولي الذي حدّثني عنه بشغف كبير. أخذت بعناوين دواوينه قبل أن أقرأها مثل "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، كان الشعراء العرب في تلك السبعينيات البعيدة يحاولون إيجاد لغة خالية من البلاغة الخاوية التي أفسدت الشعر العربي. 

رأى أن قصائد الشاعر الفرنسي تحوي العِلم ولا تتناقض معه

وهكذا قرأت ليوسف الخال، وفؤاد رفقة، وشوقي أبي شقرا، ولعلّ أهمّ إنجاز قام به جيلُ "مجلّة شعر" هو نحتُ لغة تقول الحياة في بساطتها الشاعرية، أقولُ لغةً يوميّة وثنيّة متخفّفة من ثقل الماضي الذي كثيراً ما يشدّ الشاعر العربي إلى قوالب ميّتة. وتشكلت لدي فكرة أن المسيحي العربي متحرّر من أسر القاموس اللغوي وسحر الكلمة، متحرّر من سطوة الماضي اللغوي بحُكم العقيدة. ولم يكن من باب المصادفات أنّ مُجدّدي القاموس العربي في القرن التاسع عشر كانت غالبيتهم من المسيحيّين العرب من الأب أنستاس ماري الكرملي في العراق إلى أعلام اللغة من عائلتي المعلوف والبستاني. حتى جيل الآباء أصحاب المعاجم. وعندما تقرأ قصيدة أُنسي الحاج تحسُّ بالنبرة الإنجيلية الدنيوية في قصيدته. فالسيّد المسيح لم يترك كتاباً مقدّساً ولكن تحدّرت تعاليمه في الأناجيل عبر روايات الحواريّين الأربعة، أي إنّ المحتوى رسوليّ واللغة دنيوية... كلُّ شعر أُنسي الحاج موسوم بلهجة إنجيلية كما هو نثر جبران.

في قصيدة "ماذا صنعتَ بالذّهب.. ماذا فعلتَ بالوردة" نقرأ هذا المقطع الذي يبدو استعادة شاعرية حديثة لمناجاة شولميت لحبيبها في "نشيد الأناشيد" ولكن على لسان رجل: "جميلة كجوزة في الماء/ كعاصفة في عطلة.../ انقلوني إلى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي/ انقلوني إلى جميع الأماكن لأحصرَ حبيبتي.../ قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت/ سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا/ اصبروا عليَّ لأجمعِ نثري/ زيارتُكم عاجلة وسَفَري طويل/ نظرُكم خاطف وورقي مُبعْثَر/ محبّتُكم صيف وحُبّيَ الأرض/ مَن أُخبر فيلدني ناسياً/ إلى مَن أصرخ فيُعطيني المُحيط؟/ صار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي/ صارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي.../ جميلةٌ كمعصيةٍ وجميلةٌ/ كجميلة عارية في مرآة".

هذا الشعر يأتي من توهُّج داخلي بالعالَم وأشياء العالم، لأنّ أُنسي هو الأكثر غنائية بين مُجايليه، ويظلّ الغناء بمعنى "ليريك" Poésie lyrique (وليس بمعنى شعر الأغاني الذي تُوحي به الكلمة العربية) هو جوهر الشعر الأبدي. واستمرّ أُنسي تلك الليلة في استعادة بودلير؛ إلى أن سمعتُه يقول شعر بودلير يحوي العِلم. لحظتها قلتُ: هُما أي الشعر والعِلم نقيضان؛ والفكر أيضاً نقيض الشعر. ولكنّ أُنسي أصرّ. تذكّرتُ هنري ميشو الذي يقول: "أن يجلس الإنسان إلى مكتبه بقصد كتابة قصيدة هو موتٌ لها. لأن القصدَ عملٌ ذهني". وأعاد أُنسي بإصرار قوله إنّ شعر بودلير يحوي العِلم.

وكانت أول وآخر مرّة ألتقي أُنسي الحاج في تلك الليلة السرمدية في "سيتي كافيه" التي تنتمي إلى عالم الخيال. فأنا لم أستطع أن أُموضع بيروت في مكان ثابت في وعيي. ونهضنا من كراسينا، وأثناء المغادرة اتّجهت إيتل عدنان إلى صاحب المقهى وتبادلت معه بعض الكلمات ثم تطلّعنا على لوحة مثبّتة على الحائط كتب عليها كلّ الأدباء والشعراء الذين مرّوا من هذا المكان أسماءهم؛ وشعّ في الذاكرة من خلال هذه الأسماء ضوءٌ لا مرئي.

وبعد سنوات وأنا جالس في ليل أمستردام، وقعتُ فجأةً على نَصّ الشاعر الكونت دوليل Leconte de Lisle الذي كتب: "على الشعر والعِلم أن ينزعا إلى الاتّحاد بشكل وثيق إن لم يكن إلى التمازج". وردّ عليه شارل بودلير مستثاراً: "لا يُمكن للشعر أن يُدمج بالعِلم إلّا أن يكون قد مات وتحلّل".


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

المساهمون