تاريخ رمضان الذي لم يُكتب بعد

18 مارس 2025
إفطار في جامع الأزهر في القاهرة، 4 مارس 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- رمضان: حدث محوري في الإسلام
رمضان يحتل مكانة خاصة لدى المسلمين منذ نزول القرآن على النبي محمد، حيث فرض الصيام ليصبح تجربة شخصية واجتماعية من خلال شعائر مثل صلاة التراويح وقيام الليل.

- رمضان بين الروحانية والاستهلاك
شهد رمضان تحولات كبيرة، حيث أصبح مؤسسة استهلاكية بجانب كونه شهرًا للعبادة، مع تزايد الإنتاج التلفزيوني والبرامج الترفيهية، مما أثر على سلوكيات المسلمين واستهلاكهم.

- رمضان في سياق العولمة والسياسة
يعكس رمضان تأثير العولمة والسياسة، حيث يُقرأ برؤية متعددة الثقافات ويعيد ترسيم الحدود بين الدول، مما يبرز الحاجة إلى كتابة تاريخه لفهم تأثيراته العميقة.

في رمضان، من العام الثالث عشر قبل الهجرة، نزل القرآن أول مرة على النبي محمد فانبلج فجر الإسلام. ولأن نزول الوحي كان حدثاً محورياً فإن رمضان سيتبوّأ مكانة لدى المسلمين وسرعان ما تحوّل إلى رابطة دينية أكثر متانة حين فُرض الصيام فيه على المسلمين كافة، فأصبح له خصوصيات جديدة؛ فهناك ما قبل وما بعد رمضان، وهناك تجربة شخصية يخوضها كل مسلم، نفسيةٍ وجسديةٍ، وهناك أيضاً تفاعل اجتماعي تُحييه شعائر مختلفة من تقاليد مائدة الفطور إلى صلوات مخصوصة بين تراويح وقيام ليلٍ، وساهم تجدّد ذلك كل عام في إعادة إنتاج الإسلام جيلاً بعد جيل. 

وسنلاحظ أنه مقابل مدوّنة واسعة للكتابات التاريخية حول الإسلام، وحول عناصر منه كتاريخ القرآن أو السيرة النبوية بوصفها تأريخاً لحياة الرسول، لم يحظ رمضان رغم مكانته بكتابة تاريخية مخصوصة كأنما يسود اعتقاد بأنه لا تاريخ لرمضان فيوحي ذلك بأنه هو ذاتُه منذ نزول الوحي إلى أيامنا. ولعل في هذا الإحجام تأكيداً على تقديس رمضان ولكن إذا كنا نستعمل عبارة "نزول الوحي" فهي تأتي بإشارة لطيفة إلى لقاء ما هو رباني متعال بما هو بشري دنيوي. وبعد ذلك فلكل شيء دنيوي أحوالٌ وتقلّبات وتغيرّات يمكن رسمها في خطوط سردية، تستقيم أحياناً وتتعرّج أخرى، وقد تتقطّع أيضاً فنرتقها، وكل ذلك في سبيل تركيب صورة قابلة للتمثّل والفهم والتأويل والتداول، وهو ما نسمّيه تاريخاً. وعليه فلرمضان تاريخ جدير بنا - كأُمّة جعلت منه أحد مرتكزات هويتها - أن نتصدى لكتابته.

كيف لا نفكّر في تقصّي استجابة رمضان لتحوّلات العالم

وإننا لو نظرنا إلى مجتمعات المعرفة من حولنا لوجدنا الكتابات التاريخية تتدفّق فيها كأنهار صاخبة. هناك، يؤرخون للأفكار وللألوان وللروائح وللملابس وللطبيعة وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى. ولقد وجدتُ يوماً كتاباً بالفرنسية بعنوان "تاريخ يوم الأحد" (1997) للباحث روبير بيك Robert Beck فأثار في ذهني مسألة كتابة تاريخ رمضان؛ وفيه نقرأ تحوّلات يوم الأحد في فرنسا، بين توظيفات السلطة والاستخدامات الاجتماعية، وكيف تحوّل من "يوم الربّ" مخصّص للعبادة إلى يوم للترفيه مكرّس للتسوق ومشاهدة مباريات كرة القدم. وبالنهاية فلا نقرأ تاريخ يوم الأحد وإنما مجمل تاريخ فرنسا المعاصر بطبقاته السياسية والثقافية والاجتماعية.

وإن من فوائد هذا النوع من التاريخ أنه لا يأتي على هيئة خطٍّ، ولطالما أوحى تلاحُق الأحداث بمصداقية الكتابة التاريخية فتسرّبت المغالطات في ثياب القابل للتصديق، وما تلك الخطوط إلا تصوّرات ممكنة من بين ممكنات كثيرة أخرى. وقد يساعدنا عنصر غير مستمر زمنياً مثل رمضان كي نؤدّي تمريناً في التحرر من النماذج المكرّسة للسرديات. أن نتدرّب على التأريخ للمتقطع زمنياً حيث لا يكون الحدث مكتملاً، بل يرتسم جزء منه لا غير في الصفحة التاريخية التي نقرؤها.

وعموماً، ليس الحدث وحده مادة التاريخ وإن أوحى بذلك. ومن هذا المنطلق، يفرّق المؤرخ بول فاين بين التاريخ كحقل من الأحداث من جهة والتاريخ كخطاب. وإن أحداث رمضان بالضرورة غير مترابطة، فانتهاء الشهر مرتبط بدورة فلكية لا شأن لها بما يتصل أو ينفصل من حياة الأمم ودولها. فإذا كان الخطاب التاريخي المتداول قابلاً للتزييف وفق رؤية الأقوى، فإن تشظية حقل الأحداث سيخفّف بالتأكيد من منسوب المغالطة فيه.

كتاب روبرت - القسم الثقافي

ورغم ذلك، فلا يعدم رمضان مادة حدثية ثرية، فقد تراكمت فيه منذ أول عصور الإسلام وقائع فارقة أبرزها غزوة بدر الكبرى في ثاني أعوام الهجرة، وفتح مكة في ثامنها. كما شهد أحد أبرز فصول الفتنة الكبرى حيث اغتيل علي بن أبي طالب في أحد أسحاره. ولاحقاً شهد الشهر فتح الأندلس في العام 92 للهجرة، ومن المفارقات أن تقع معركة بواتييه في رمضان أيضاً، وفيها انهزم جيش المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي عام 114 هـ فكانت أبعد نقطة وصلت إليها طموحات الفتح في أوروبا الغربية قبل العودة خلف جبال البرانس، ثم مغادرة الأندلس بعد قرابة ثمانية قرون. ولنا أن نمضي في ذكر أحداث صادف وقوعها أحد أيام رمضان إلى أيامنا، يكفي أن نذكر معارك في الحروب الصليبية وأخرى للعثمانيين في شرق أوروبا وصولاً إلى حرب أكتوبر 1973. إذن، ورغم أنه شهر واحد في العام، لم تفت رمضان فصول كثيرة من تاريخ الأمة الإسلامية.

انقلب شهر الصيام في العقود الأخيرة إلى جهاز ترفيه كبير

في هذا المسار الطويل بين القرون لا نختلف بأن العالم قد شهد انتقالات عقائدية ومعرفية وتقنية كبرى، فكيف لا نفكّر في تقصّي استجابة رمضان لجميع هذه التحوّلات؟ وكيف لا نقر أنه تغرّب عن صورته الروحانية الأولى، وإن حافظت على بقيةٍ إلى يومنا هذا فذلك من حاجات الإنسان التي يحرص على تغذيتها. دون أن يمنعه ذلك أن يلاحظ حقيقة تحوّل رمضان إلى مؤسسة استهلاكية عملاقة، حتى أنه من الوجيه التساؤل أهو شهر الصيام والقيام حقاً حين نرى مثلاً سيل الإعلانات التلفزيونية التي تخاطب الغرائز حصراً. 

يتعايش هذان الوجهان في رمضان، إذ تجد المساجدَ مليئة عن آخرها بالمتعبّدين كما تجد طائفة واسعة من الباحثين عن الترفيه وقد أعدّت لهم المطاعمُ والمقاهي أسباب اللهو واللغو. ولا نعرف كيف أغمضنا أعيننا وفتحناها فوجدنا أن معظم رمضان بات يدور في الميديا وليس في الواقع، ما فرض عليه إيقاعات جديدة ليست من هيأته الأولى في شيء.

في زمن الصورة، بات رمضان قلب رحى المادة الفنية، وقد تجمهرت حول الإنتاج التلفزيوني. بدأ الأمر بشكل خجول في سبعينيات القرن الماضي مع اقتراحات الدراما المصرية لتخييل تاريخي قريب من أجواء الشهر المعظّم، فظهرت المسلسلات الدينية ثم ما لبثت أن توسعت الدوائر إلى مسلسلات تاريخية شدّت المشاهدين واندرجت ضمن عاداتهم. ولم تلبث أن استشعرت ألوان الدراما الأخرى العلاقة بين رمضان وتسمّر المشاهدين أمام التلفزيونات، فدخلت على الخط الدراما الاجتماعية والواقعية، ومن ثمّ تسرّبت مواد أكثر خفة ثم تحوّلت بالتدريج إلى الطبق الرئيسي الذي تقدمه الشاشات. 

ومع انتقالات مراكز ثقل الميديا من الإذاعة إلى التلفزيون فالفضائيات، تسارع نسق الإنتاج وتمركز في رمضان بشكل مبالغ فيه، حتى صارت المادة الدرامية تفترض أن جمهورها رمضانيٌ أو لا يكون. ترسّخت بالتدريج بديهيات تقوم على اعتقاد أن المادة الرمضانية موجهة لجمهور أرهقه الصوم طوال اليوم فلا ينتظر إلا مادة ترفيهية لا تتعب ذهنه. وبذلك انقلب رمضان إلى جهاز ترفيه كبير.

صارت المادة الدرامية تفترض أن جمهورها رمضانيٌ أو لا يكون

تتحوّل بعض الفرضيات إلى حقائق، وفعلاً ترسّخ اعتقاد بكسل المتفرج العربي حتى اقتصر المخرجون والمؤلفون على الحد الأدنى من الجهد والابتكار، وانهار المشهد الإبداعي أو يكاد. ومن هو المتفرج في الأخير، أليس هو العامل والتاجر والموظف والطالب وغيرهم ممن ينطلقون إلى الحياة، فترى كثيراً منهم مرهقين من السهرات المطولة، حتى ارتبط رمضان أيضاً بمظاهر التكاسل وتراجع الإنتاجية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ رمضان اليوم يصعب أن يُكتب دون أن يكون تاريخ الكسل قبله قد دوّن. وسترى لرمضان في الأسواق حكايات أخرى فينعطف بنا إلى تواريخ أخرى، فهل كتبنا تاريخ التبذير مثلاً؟ وبذلك نفهم أن تاريخ رمضان لم يكتب بعد لأن تواريخ عربية كثيرة معطلة.

جميع هذه الظواهر طارئة على رمضان، لكنها تنطق بلسان مبين حول سلوكيات المسلمين اليوم، كيف تحوّلوا مثل غيرهم إلى مجتمعات استهلاك ومجتمعات استعراض. وحده رمضان يكثّف هذا الملمح أو ذاك ويُبروزه في إطار زماني محدود. فإذا كنا نؤرخ لرمضان فلا بد من وضعه على سلم تاريخ الرأسمالية واقتصاديات السوق حتى نفهم مثلاً كيف انقلب من مشقة بدنية أوجبها الدين إلى مشقة مادية فرضتها المجتمعات.

يخبرنا رمضان بذلك كم نحن في قلب العولمة. وبعدها، هل لنا أن ننكر أنه قد تعولم هو الآخر؟ ولا يتعلق الأمر بما تغيّر في المنطقة العربية وحدها، فقد انتقل رمضان بفعل الهجرات مع المسلمين إلى أرجاء المعمورة، فبات لا يمكن أن يُقرأ إلا برؤية متعددة الثقافات ومتنوعة الحساسيات.

ثم هل سبق ونظرنا إلى رمضان من زاوية السياسة؟ يكفي أن نرفع أعيننا إلى هلاله وسنتذكّر أن رصده عملية تعيد ترسيم الحدود بين الدول، وأحياناً تعكس اصطفافات ظاهرها ديني وباطنها دبلوماسي أو تُظهر بحث أنظمة عن الاختلاف بأي ثمن. وبذلك فإن لهلال رمضان، ومعه هلال العيد، تاريخا مستقلا بذاته لم يُكتب بعد هو الآخر.

وبسبب اعتماد الأشهر القمرية في التقويم فإن رمضان يتنقّل بين فصول العام، فلا يأتي إلا مختلفاً بعض الشيء عما سبقه. وكلما عاد يكون الناس قد تغيّروا أيضاً. فلسنا نحن أنفسنا الذين عشنا رمضان العام الماضي، أو رمضان العقد الماضي. نحن الذين تتغير علاقتنا بالدين والدنيا، ويتغير العالم من حولنا فيسقط طغاة ويظهر غيرهم. وتعبرنا أخبار الحروب والانقلابات والزلازل. وهل لنا أن نبقى حيث كنا بعد أن صرنا شهوداً على حرب الإبادة في غزة؟ وحينها سيتبدى رمضان كعلامات لعبورنا في الزمن. فهو يؤرخ لكل واحد فينا.

وإذا عدنا أخيراً إلى سؤالنا عن غياب تاريخ لرمضان ولم نملك إجابة فحسبنا أننا جعلنا منه مناسبة لنفكّر في مساحة "غير المؤرخ له" عربياً.
 

المساهمون