استمع إلى الملخص
- يتناول الجزء الثاني التحولات العميقة في الدولة العثمانية خلال قرنها الأخير، مع التركيز على محاولات التحديث والتحديات الخارجية، ويعالج قضايا مثل الأرمن ضمن سياق متعدد الزوايا.
- يدعو الكتاب إلى مقاربة نقدية لتاريخ الدولة العثمانية وتركيا الحديثة، ويعتبر مرجعًا مهمًا لفهم التحولات الكبرى في المنطقة بعيون عربية ناقدة.
ضمن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، صدرت النسخة العربية من كتاب "تاريخ الدولة العثمانية وتركيا الحديثة" في جزأين بترجمة أحمد سالم سالم؛ الأول من تأليف المؤرخ الأميركي ستانفورد ج. شو، وحده فيما شاركته زوجته الباحثة إيزيل كورال شو، تأليف الجزء الثاني تحت عنوان "الإصلاح والثورة والجمهورية: قيام تركيا الحديثة (1808-1975).
من قبيلة إلى إمبراطورية
اشتمل الجزء الأول على تمهيدٍ مع بيبلوغرافيا التاريخ العثماني حتى عام 1808، وثمانية فصول جُمِعَت في قسمين، ووضع المؤلف محتوى الجزء الأول بين دفتي خريطتين، إذ افتتحه بخريطة توسع الدولة العثمانية من 1280 إلى 1683، واختتمه بخريطة تبين انحدار الدولة العثمانية وصعود الجمهورية التركية (1683-1975).
ويسرد تحوّل العثمانيين من جماعة بدوية صغيرة إلى إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات العابرة للقارات، كما يركّز على الجذور الأولى لنشأة الدولة، وعلى البنيتين الاجتماعية والسياسية اللتين صنعتَا هذا الصعود، مؤكدًا أن الدولة العثمانية لم تكن كيانًا مغلقًا، بل كانت مجتمعًا ديناميكيًّا متداخل الأعراق والأديان أتاح تعايشًا نسبيًّا بين مكوّناته في ظلّ حوكمة مركزية محدودة تقودها نخبة متعددة العرق تحت راية السلطان.
ويقدّم المؤلف مقاربة مغايرة للرواية الأوروبية الكلاسيكية، عبر تتبّع تطوّر مؤسسات الدولة والقيادة العثمانية، مع الاهتمام بالسياقات الإقليمية والدولية والاقتصادية، من دون الاقتصار على سِيَر السلاطين أو روايات الفتوحات. ويسلّط الضوء على تداخل الشعوب والأديان داخل الإمبراطورية، وتشكّل ما سيُعرف لاحقًا بـ "المسألة الشرقية"، بوصفها نتاجًا لتفاعلات معقدة بين الدبلوماسية والحروب والخسائر الإقليمية. ويعتمد هذا الجزء، بخلاف دراسات سابقة، على مزيج من المصادر العثمانية والأوروبية، ما يضفي عليه – من الناحية النقدية – توازنًا، وعمقًا موضوعيًّا.
يقدّم المؤلف مقاربة مغايرة للرواية الأوروبية الكلاسيكية، عبر تتبّع تطوّر مؤسسات الدولة والقيادة العثمانية
ويعالج أيضاً إشكالية الترجمة والتهجئة في السرد العثماني، ولا سيما في أثناء التعامل مع المصطلحات والأسماء الجغرافية، فيعتمد التهجئة التركية الحديثة لتيسير القراءة. ويعد هذا الجزء من الكتاب ثمرة عقدين من البحث في الأرشيف العثماني، مدعومًا بوثائق أوروبية وأميركية؛ ما يجعله مرجعًا جادًّا لإعادة بناء سردية الدولة العثمانية من الداخل، خارج الأطر الاختزالية والتحيّزات الغربية. ويُعدّ عند القارئ العربي، بمنزلة "نافذة" مهمّة لفهم التاريخ العثماني بوصفه مجالًا لتفاعلات اجتماعية وثقافية ودينية متشابكة، وليس سردية عن حكم السلاطين وتوسّع الفتوحات فحسب. ومن ثمّ، يكتسب قيمة معرفية وثقافية، ويُسهم في مراجعة التصوّرات النمطية عن العثمانيين، ويعيد الاعتبار إلى مرحلة تاريخية لا تزال تؤثّر بعمق في واقع المنطقة ومستقبلها.
تحولات كبرى
ويتضمّن الجزء الثاني تصديراً، ومقدمة خاصة للطبعة الثانية من الكتاب الأصلي، وستة فصول. كما يورد المؤلف في نهاية الكتاب بيبلوغرافيا تفصيلية لكل ما تعلق بتاريخ الدولة العثمانية وتركيا الحديثة (1808-1975)، وضمنه أيضاً ملاحق بقائمة الصدور العظام ورؤساء الوزراء العثمانيين (1839-1922)، وقائمة برؤساء الجمهورية التركية، وقائمة أخرى برؤساء وزراء المجلس الوطني الكبير والجمهورية التركية.
ويتناول التحولات العميقة التي شهدتها الدولة العثمانية في قرنها الأخير، وصولًا إلى تأسيس الجمهورية التركية. ويركّز المؤلفان على محاولات التحديث في مؤسسات الدولة وبنيتها الاجتماعية، في ظل ضغوط خارجية متزايدة، وصعود التيارات الفكرية والقومية؛ ما أدى إلى تفكك السلطنة وبروز الجمهورية. ويُظهر السرد كيفية تشابك الحروب والانتفاضات والأزمات الصحية والاقتصادية، وتشكيلها خلفية مأساوية جامعة لمختلف شعوب السلطنة من أرمن وأتراك وعرب ويونانيين ويهود، بعيدًا من المقاربات الأحادية أو المنحازة.
ويستند الجزء الثاني إلى محفوظات عثمانية ومراجع غربية؛ ما أتاح للمؤلفَين تقديم قراءة تاريخية متوازنة، تراعي التعدد الثقافي والعرقي لمجتمعٍ غير متجانس. وقد أثارت معالجة قضية الأرمن نقاشًا واسعًا، خصوصًا لدى القرّاء الأرمن، وكان الإصرار على عرض معاناة هؤلاء جزءًا من عرضٍ أوسع لمأساة عامة ينبغي فهمها ضمن سياق مركّب متعدّد زوايا النظر.
ويدعو المؤلفان في خاتمة الكتاب إلى مقاربة نقدية منفتحة لتاريخ هذه الحقبة تتيح فحص الروايات المتعددة والمقارنة بين مصادرها؛ لتكوين وعي تاريخي أعمق وأكثر تحررًا من المقولات الجاهزة. وبذلك، يُعدّ هذا الجزء من الكتاب مساهمة نوعية في فهم التحولات الكبرى التي أسّست لقيام تركيا الحديثة، ومرجعًا مهمًّا لفهم تاريخ المنطقة بعيون عربية ناقدة.