"بيرسونا" ومسرحة الخوف

06 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 05:03 (توقيت القدس)
من العرض (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عرض "بيرسونا" بمهرجان أيام القاهرة للمونودراما، تجسد مريم سعيد فتاة مصابة بالتوحد تخفي حقيقتها خلف قناع اجتماعي، لتكتشف أن الخلاص يكمن في مواجهة ذاتها بلا تصنع.
- العرض استخدم لغة مسرحية مكثفة، حيث تداخلت الإشارات الجسدية مع المشاعر النفسية، مع توظيف الإضاءة والأزياء لتعكس التحولات الداخلية للبطلة.
- "بيرسونا" يمثل تحديًا في الأداء، حيث اعتمدت مريم سعيد على التمثيل والعزف والحركة لخلق توتر درامي وعلاقة حية مع الجمهور.

انطفأت أضواء مسرح الغد في القاهرة، مساء الجمعة الماضي، ولم يبق سوى ومضات خافتة انعكست على شبكة من الخيوط تتدلّى في منتصف المكان. في داخلها تقف فتاة عشرينية تُصارع وحدها خوفها من العالم ومن نفسها. في عرض "بيرسونا"، الذي أخرجه سعيد سليمان وقدّمته الممثلة مريم سعيد ضمن فعاليات مهرجان أيام القاهرة للمونودراما التي تُختتم اليوم، يتحوّل الفضاء المسرحي إلى ساحة اعتراف وتجربة بصرية ونفسية مكثّفة حول فكرة القناع الاجتماعي.

تدور المسرحية حول فتاة مصابة بالتوحّد، تعيش في عالم من التظاهر الدائم لإرضاء الآخرين، فتخفي حقيقتها خلف سلوك مصطنع يبدو طبيعياً في نظر المجتمع. ومع تصاعد الأحداث تكتشف أن الخلاص لا يكون بمزيد من التكيّف، بل في خلع الأقنعة التي كبّلتها طويلاً، لتواجه ذاتها كما هي، من دون تصنّع أو تزييف.

قُدّم العرض ضمن فضاء صغير أقرب إلى مسرح الغرفة، إذ كانت بطلة العرض تتحرك وسط الجمهور، وتكسر الحاجز التقليدي بين الخشبة والمقاعد. الإضاءة الزرقاء في لحظات العزلة، واللون الدافئ في لحظات التفاعل، منحا المشهد حساسية بصرية عالية، جعلت من العرض أشبه برحلة داخل الذهن البشري، لا مجرّد تمثيل لحالة نفسية. هنا يتجاوز العمل حدّ الحكاية ليقدّم تأملاً في علاقتنا بالآخرين، وفي الطريقة التي نرتدي بها وجوهاً مصطنعة؛ كي نبدو أكثر انسجاماً مع ما يفرضه المجتمع من صور وقوالب جاهزة. ينتمي "بيرسونا" إلى شكل مسرحي يقوم على ممثل واحد يحمل النص والصوت والجسد معاً. 

لا يكون الخلاص بمزيد من التكيّف بل في خلع الأقنعة

استعان العرض بلغة مسرحية بسيطة ومكثفة، تتقاطع فيها الإشارة الجسدية مع المشاعر النفسية، فيكشف المخرج عن وعي دقيق بالمساحة المحدودة وطاقتها التعبيرية، وكل حركة تحمل أثراً وإشارة شعورية، وكل انتقال في الضوء يعادل تحوّلاً داخلياً في وعي البطلة بنفسها. الأزياء كذلك أدت دوراً درامياً؛ إذ تبدلت بين طبقات من الألوان والملمس، لتعكس تبدّل الأقنعة ومحاولات التكيّف الاجتماعي. وما يميز العرض أيضاً هو قدرته على توظيف عناصره التقنية في خدمة المعنى من دون إفراط، إذ لا يقدم العرض حكاية عن التوحّد بقدر ما يطرح تساؤلات عن الوعي والإحساس بالذات ومكامن القوة لدينا.

هذا النوع من العروض يمثل التحدي الأقصى في الأداء، إذ يعتمد على قدرة الممثل على ملء الفراغ، وخلق التوتر الدرامي من ذاته وحدها، من دون شريك أو سند. في هذا السياق، وزّعت مريم سعيد طاقتها بين التمثيل والعزف والحركة، فحوّلت وحدتها على الخشبة إلى طاقة درامية متدفقة وعلاقة حيّة مع المتفرجين، تقوم على المواجهة المباشرة لا على المشاهدة الساكنة.

يُذكر أن مسرح الغد هو واحد من ستة فضاءات تحتضن عروض مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما، الذي انطلق تحت شعار "في القاهرة آفاق جديدة للمونودراما"، واقتصرت المشاركات غير العربية هذا العام على القارة الأوروبية، بينما غابت العروض الأفريقية والآسيوية واللاتينية التي كانت تضفي في الدورات السابقة تنوعاً أوسع وملمحاً أكثر عالمية. 

المساهمون