بيداغوجيا

بيداغوجيا

28 يناير 2021
المهدي قُطبي/ المغرب (جزء من لوحة)
+ الخط -

استيقظتُ متأخرًا كالعادة وغادرت بلا فطور. ولماذا سأستيقظ باكرًا بمفردي في مثل هذه الساعة والنّاس كلهم نيام، من مقدّم الحيّ إلى عامل المدينة، والوطن متأخر في كل شيء؟ لا بأس إذا ما تأخرت بدوري ثلاث دقائق لا أكثر. هكذا أبرّر دومًا كسلي. المهم أنني وصلتُ وبدأت بلا مقدماتٍ إلى أن وجدتُ نفسي أقف أمام حيّ قصديري يمتد أفقيًا أمام عمارة سكنية. كانت هناك مزبلة عظيمة في الصورة، وذبابٌ نشيط جنب ماسورة المياه، وأطفال يلعبون جنب شريط المياه العادمة الذي يشطر الحي إلى قسمين. النساء يقشّرن الصباح بأشياء غير واضحة في بيوت وطيئة. وهناك أعمدة الدّخان تتصاعد من المزبلة.

أوشكت أن أختنق لولا أنّي تركتُ الصّغار يبحثون عن الأسباب والحلول الممكنة، وغادرت لأطل من الطابق الأول على سلوى، أستاذة التربية البدنية التي تتلوّى ببذلتها الرياضية اللاصقة وسط حشدٍ من التلاميذ جنب أشجار الزيتون. نعم، الرياضة جيّدة في هذا الصباح لكن استديري قليلًا جهة القاعة 17 يا سلوى، ودعي توأمي حجل يتراقصان بعنفٍ على الصدر العالي. أريد أن أمرّ وسط النفق الصغير فأصل إلى الضفة الأخرى لأتسلق الحائط القصير وأغادر رأسًا إلى المقهى المجاور لأتناول فطوري ثمّ أعود. أنا مثلك غير متزوج، ظريفٌ ورومانسي وبُرجي هو الحمل. أجلس في السلم 11 منذ سنوات، ولديَّ ثروة في البنك ومحتمل أن أفوز بجائزة كبيرة في الشعر.

أنا مثلك أحبّ الرياضة والنظافة وتقليم الأظافر وكوبَ حليبٍ في الصّباح وتفاحة قبل النوم. سليمٌ ومعافى من الأمراض لولا شعوري الدائم بأن هناك من يتعقبني بعينه الشريرة وينتظر بشوقٍ كي أسقط في بئر عميقة وسط أسلاك شائكة، وأيضًا بقايا كلاب ميّتة كي يأتي هو ورائي ويخلط الإسمنت بالرمل ويسدّ فم البئر بإحكام مُفوِّتًا عليّ الأمل في النجاة.

بسبب هذه العين الشريرة أتوقع أسوأ النهايات كأن أموت في حادثة سير في الطريق الثلاثية المؤدية إلى قرية المعازيز، قبلها بستة كيلومترات، قرب السوق الأسبوعي بالتحديد، وبمحاذاة معصرة الزيتون غير بعيدٍ عن منزل التلميذة سُميّة الذي ماتت في ساحة الإعدادية بسبب نوبة قلبية. كان حينها أحدهم يرشّها بالماء فيما ظل آخرون متلكئين في الاتصال بسيارة الإسعاف على أمل أن تستيقظ، غير أنّ سمية فعلتها بجدية وتركت دفاترها المدرسيّة تعبث بها الفئران. تحكي لي أمها وهي تمضغ العلك.

كان ممكناً أن أخوض معارك أُخرى لولا أن فتر حماسي

أنا مثلك أحبّ الرياضة لولا أنّي كسولٌ وأكره الاثنين والثامنة صباحًا. أكره الأدراجَ اللولبية ونافذة القسم المطلة على الخراب. وأكره التلاميذ المدسوسين من طرف الإدارة مثل مخبرين صغار وسط زملائهم. إنه الدرس الأول في العمالة والتجسس. أكره الأعوان الذين يتسوّلون بأوراق طبية مزورة والمدير الذي يُخبئ زوبعة تربوية في معطفه الواسع وكل شيء تقريبًا، لكنني أحبك من علٍ.

وها أنا أستمد القوة منك يا سلوى، وأصعدُ مرتفعات الريف كأيّ رياضي محترف وأرفع فوقها همتي الصباحية وشرحي المستفيض شمال السبورة، قبل أن أنحدر إلى الأطلس المتوسط مخفورًا بموّال الجدات ومن مرّوا حاثين السير إلى الأسواق الأسبوعية على دوابٍ منهكة. ثمّ أواصل الهبوط إلى الأطلس الكبير حيث قطيع حمير يلهو جنب الطريق الجهوية المؤدية إلى مراكش. ثم استراحة قصيرة فوق جبل توبقال وسط أكوام الثلج، حيث هناك من يلهو بالزلاجات وينظر باستخفاف إلى السفح. ثمّ انحدارًا إلى الأطلس الصغير حيث ينتصب جبل سيروا حزينًا وبلا عائلة، قبل أن أتجرد من ملابسي الثقيلة وأصل راكضًا بإصبعي في اتجاه حمادات درعة. ثم انعطافًا على اليمين في اتجاه الوادي الهزيل والذي ترعى جنبه قصص وأساطير الأولين.

حدث كل ذلك في لمح البصر قبل أن أستعيد أنفاسي في حدود العاشرة والنصف، وأزهد في الدنيا وما فيها، المال ومتاع الغرور، فقصدت لمتونة سافرًا عن وجهي. أنا الآن يوسف المرابطي بجلبابٍ صوفي وصندل جلدي تطل منه أقدامي المتشقّقة، طعامي حبّات زيتون وبعض الألبان على نهج المعرّي مع تنويعاتٍ لا تتعدى لحم الإبل. لكنّني حازمٌ وبمستطاعي أن أصل على مراحل إلى الأندلس حيث ملوك الطوائف يغرفون الخمر من براميلَ كبيرة وشقراوات يتمايلن على أوتار زرياب القرطبي وغلمان يؤدون الخدمة بغنجٍ محبّب. وهذه إشبيلية تنشر أعضاءها بسخاءٍ على الوادي الكبير حيث الشّاعر المعتمد ينقح آخر قصائده تحت شجرة دانية في حديقة القصر. ولا يهم أن يؤذي الذباب ألفونسو السادس وجيوشه. فقليلًا سأجرّهم إلى سهل الزلاقة لأدحرهم جميعًا أنا البطل الملثم صاحب الأقوال والأفعال والذي لا يهاب شيئًا.

وها أنا ذا أعود الأدراج إلى وطني مشتاقًا إلى أهلي خلف البحر، مُخلّفًا ورائي قتلى ومعطوبين. أعود إلى مصمودة متسلحًا بالأصول وما تفرّع عنها. أنا المهدي هذه المرّة السائح الجوّال بنعالٍ من الريح، من جبالٍ شامخات الرؤوس إلى وهادٍ خفيضات ذليلات. من مرّاكش إلى فاس أقود مصيري باحتياط أتقوّى في تطبيقه. "أنا أعزّ ما يطلب" في هذا الزمان وسليل الغزالي وما احتوته جِراب العلماء والشعراء من النجوم والأقمار. أنا المهدي المنتظر، فأفسحوا لي أيها الملثمون كي أمرّ.

كان ممكنًا أن أخوض معارك أُخرى لولا أن فتر حماسي في حدود الحادية عشرة والنصف، فتخلّيت عن هذه الحروب المجانية وهذا الغرور العربي الفائض، عن هذه الوجوه الصارمة المستعدة لأن تفتك بك لأتفه الأسباب، وهذه اللغة الصلدة والتي عليك أن ترش فوقها مسحوق الفراولة قبل أن تتذوقها بلسانك ثم تُحوّلها إلى لسان الصغار الذين أنهكتهم العادة السرية ومباريات الدوري الإسباني.

لقد كنت مجبرًا على أن أقفز سريعًا على العصور مثل سندبادٍ إلى أن وصلت إلى القرن التاسع عشر، فوجدت نفسي رأسماليّا كبيرًا بأوروبا الغربية أديرُ من خلف نظاراتي الطبية المصانع الواقعة في الضاحية حيث هدير الآلات لا يتوقف. ومنظر العُمّال الجميل وهم يشتغلون طوال النهار مثل بغالٍ حقيقية مقابل أجور زهيدة. لا بدّ لهم أن يكدحوا في صمتٍ وبلا تخاذلٍ ولا احتجاجٍ كي يعيشوا. أمّا النقابيون الذين يثرثرون طوال النهار في جرائدَ لا أحد يقرأها، ويحشون رؤوس البؤساء بأفكار كارل مارس وماوتسي تونغ، فلا بدّ أن أساومهم في مبادئهم والتي سرعان ما يتخلون عنها بالتقسيط فوق الطاولات وتحتها ويغادرون كذئابٍ لئيمة.

ولا بد أن أرمي عيني إلى أبعد نقطة في أفريقيا حيث مزارع القمح وشتّى الثمار، إذ أحتاج إلى توسعات كبيرة جنوب السبورة وشرقها، ويُستحسن أن أبدأ بالوصول فجرًا إلى وهران الجزائرية وأدحض المقاومين بلا رحمة وأُبعد الأمير عبد القادر إلى سورية. وأشياء أخرى وقعت بلا روابط ولا حُسن التخلص قبل أن يصهل الجرس الإلكتروني وأهبط الأدراج مُحاطا بسيلٍ من التلاميذ كأي بطل همام.


* كاتب من المغرب

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون