بيار بيرغونيو.. سيرة شخصية للسنوات الأخيرة

بيار بيرغونيو.. سيرة شخصية للسنوات الأخيرة

08 ديسمبر 2021
بيار بيرغونيو في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي (فريدريك ليربينيير)
+ الخط -

لا نعرف تماماً الشروط التي تجعل من كاتبٍ ما مؤلِّفاً معروفاً، تُقرأ كُتبه في مختلف الأمكنة، على اختلاف انتماءاتها الطبقية والاجتماعية، ويُستحضَر اسمه في تلك القوائم التي تُحدِّثنا عن "أفضل" كتّاب في بلدٍ ما. أو أننا ربما نعرف القليل عن هذه الشروط، المتغيّرة، والتي ربطها علماء اجتماع اشتغلوا على الأدب ووصّونا بالنظر إلى العلاقات الاجتماعية، والإرث العائلي، والاقتصادي، وكذلك إلى علاقة المنتَج الذي يضعه المؤلّف بما يطلبه الجمهور في لحظةٍ تاريخيةٍ ما.

ورغم أن شروطاً كهذه قد تبدو فضفاضة بالنظر إلى الواقع الأدبي الذي يشهد صعود نجم أدباء جاؤوا من خلفيات اجتماعية "متواضعة"، إلّا أنها تنطبق إلى حدٍّ بعيد على حالة الكاتب الفرنسي بيار بيرغونيو (1949) الذي ما يزال اسمُه، حتى داخل بلده، محصوراً بشريحة من القرّاء المهتمّين، رغم المكانة المهمّة التي يمنحها إيّاها النقّاد والعارفون بالعوالم الأدبية. قِلّة اعترافٍ غالباً ما تُحال إلى مجيئه من قرية "ضائعة" في إقليم فرنسي ضائع بدوره، في وسط فرنسا، وإلى تفضيله البقاء بعيداً عن شلل وجماعات النخبة الباريسية وأهوائها وشروط الانتماء إليها.

يبني بيرغونيو، منذ نحو أربعين عاماً، معماراً أدبياً من الأكثر اختلافاً وتميّزاً في فرنسا. معمارٌ مؤلَّف من كتب مقالات أو محاولات، ومن نصوص سردية، وروائية، بشكل أساسيّ. وما يميّز اشتغاله، إضافة إلى بُعده السيَري وتمركزه حول الكتابة والأدب ومعنيهيما، وكذلك حول كاتب المفضّل، ويليام فوكنر، هو استخدامه لمستوىً ولشكلٍ من اللغة الفرنسية يكاد لا يلجأ إليه أحدٌ من الكتّاب المعاصرين، ما يجعل من قراءته تجربةً مختلفة في حقل النشر بالفرنسية.

في هذا المعمار، تتّخذ "دفاتر الملاحظات" مكانةً خاصّة، وهي يوميات يكتبها بيرغونيو منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد صدر جزءٌ خامسٌ منها حديثاً لدى منشورات "فيردييه" نفسها التي نشرت الأجزاء الأربعة الماضية. جزءٌ جديد نرى فيه كاتباً مختلفاً عن ذلك الذي عرفناه في العقدين الأوّلين من كتاباته اليومية: نحن هنا أمام رجل يجد نفسه مسنّاً، بل ومنتظراً رحيله بين ليلة وأُخرى، كما يكتب أكثر من مرة في صفحاته. على أن ذلك لا يمنه من المواظبة على قراءة أعمال يشارك رأيه فيها مع قرّائه ويُدهشنا تنوّعها: من الفلسفات القديمة والحديثة إلى الفنون، مروراً بالأنثروبولوجيا والعديد من العلوم الاجتماعية، وليس انتهاءً بالاقتصاد أو علم الآثار.

الصورة
غلاف

يشمل الجزء الجديد الفترة ما بين 2016 و2020، وهو المجلّد الثاني الذي يتوزّع على أربعة أعوام، بعد أن كانت الأجزاء الثلاثة الأولى تغطّي في كلّ مرة عقداً من اليوميات (من 1980 إلى 1990 في الجزء الأول، و1991 إلى 2000 في الثاني، و2001 حتى 2010 في الثالث). تكثيفٌ قد تشرحه عُزلة الكاتب وابتعاده أكثر ــ وهو المبتعد أساساً ــ عن ساعات ومجالس الاجتماع البشري، وتفرُّغه لقَوْل ما عنده في سردٍ يجمع بين الهموم الشخصية والانهماك الأدبي والفكريّ الذي يُطلعنا فيه على مشغله الخاصّ.

على أن يوميات بيرغونيو لا تقتصر أبداً على الجانب الإخباري هذا، بل تبدو بحدّ ذاتها نصوصاً أدبية ذات قيمة جمالية عالية، حيث لا يتخلّى الكاتب عن تطلُّبه الأسلوبي، ناهضاً بنوع اليوميات هذا إلى مصاف الكتابة التي تتجاوز الشخصيّ نحو مناطق النصّ الإبداعي المكتوب أصلاً لمشاركته مع قرّاء محتملين. أسلوبٌ تأتي اهتمامات بيرغونيو الواسعة، وقراءاته، وآراؤه الأدبية والفكرية، لتزيد من أهمّيته العمومية على حساب الخصوصية الشخصية، ما يجعل اليوميات الفردية أشبه بكتابةٍ لزمنٍ جماعيّ يعيشه بيرغونيو ويعلّق عليه.

المساهمون