بهلوانية الشر ومقتُ اللغة

19 فبراير 2025
فلسطينيون يمارسون حياتهم في خانيونس وسط الدمار الذي سببته الغارات الإسرائيلية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التخلّف والعنجهية تشكّل تحدّياً للغة والتفكير، حيث يصبح التواصل مستحيلاً عندما يكون البون شاسعاً بين البشر بسبب اختلافات جوهرية في القيم والمبادئ.
- الصهيونية، كما تتجلى في سياسات ترامب ونتنياهو، تتعامل مع الفلسطينيين كحيّز قابل للقتل والتهجير، مما يعكس جرأة في طرح قضايا فلسطين بطرق تحرم الفلسطينيين من السيادة والكرامة.
- رغم الظلام واليأس، تاريخ البشرية يثبت أن مقاومة الشر واجبة، كما أظهرت غزّة بصمودها ومقاومتها للشر، لتبقى رمزاً للأمل والتحدي.

التخلّف والعنجهية والهمجية المُطلقة تشكّل تحدّياً للغة وللتفكير، فكيف للإنسان أن يستخدم لغةً وينخرط في وصف وتحليل ما هو شرّ وبغيض دون أن يشعر بالمرض النفسي بنفسه؟ اللغة التي هي ملكيّة فردية بالأساس، ذات طابع اجتماعي صرف في الوقت نفسه. فلقد وُجدت اللغة من أجل التواصل، والتواصل أداةٌ مهمة من أدوات التفاهم والتوافق.

لكن عندما يكون البون شاسعاً بين البشر، بسبب اختلافات على مبادئ الحياة الأولى وعلى قيم الحفاظ على النفس الإنسانية بالأساس، يصبح عدم الالتقاء على أي أرضية أساسية مشتركة مصدرَ إزعاج وقلقٍ وسخطٍ شديد. 

الصهيونية إحدى هذه الإيديولوجيات التي تتجلّى في وجه ترامب ونتنياهو وغيرهما من الأشرار الصرف في "إسرائيل" وأميركا. لقد تعالوا على أي قيمة للإنسان العربي، وأصبح العرب الفلسطينيّون بالنسبة إليهم حيّزاً قابلاً للقتل والتعذيب والتهجير. ومع توجهات كهذه، يتنطع الشر ويصبح له جرأة، وهي جرأة ترامب و"إسرائيل" في طرح موضوع فلسطين بهذه الطرق الحقيرة التي يحرم من خلالها الإنسان الفلسطيني أي معنى وأي سيادة على نفسه وعائلته ووطنه، وأي كيان وأي مكان على الخريطة الإنسانية.

ظهر ترامب إلى جانب المجرم نتنياهو الذي بدا باسماً ومرتاحاً من خططه الأخيرة وكأنه إله الكون. مجرمان يدلّكان روحيهما بالإطراء المتبادل على حساب أمّة وشعبٍ بذلا أغلى ما عندهما من أجل الأرض والكرامة.

تلقف الإسرائيليون الأخبار من ترامب بترحيل أهل غزّة والفلسطينيين في الضفة الغربية، وأينما كانوا في فلسطين المحتلة، بارتياح الأشرار، وباشروا بإرساء الخطط الجهنمية لترحيل أهل البلاد الأصليّين.

شر متبجّح في الممارسة والإمعان يشل اللغة والتفكير

من البداية، أدركت الصهيونية أنّها تدخل في نفق من الشر في خطتها بالاستيلاء على فلسطين، وظهر ذلك في كتابات أحد أحبار الصهيونية أحاد آخام. نادى الأخير بتجاوز القيم نحو القوة، وتكوين قوّة مطلقة من أجل السيطرة والاستمرار في حماية مشروع شرير. وكتابته في هذا السياق تعبير فجّ عن انحدار الإنسان نحو الظلام عن كامل وعي، وبإصرار عنجهي. مشروع شر كهذا يتطلب قوة مادية وخبثاً، وتحايلاً وكذباً، وسرقة، وتضليلاً، وهكذا صار الأمر واستمر، وها نحن نرى ذروات الشر وأقبح تجلياته في "فكرة" ترامب ونشوة الصهيونية على أنقاض الدمار الفلسطيني. 

ليس من السهل على العقل البشري التفكير بالشرّ، خصوصاً عند الإنسان السوي. فالشرّ يشلّ اللغة والتفكير، يشلّهما لكونه لا يستقيم مع التفكير الأوّلي بأنّ اللغة والتواصل مع البشر الآخرين ممكنان. مع شر كهذا، متبجّح وجريء في الممارسة والإمعان فيه، تسقط كلّ إمكانات التواصل والتوافق، وتدخل اللغة في نفقٍ مظلم، ويتطلب الأمر تدبّراً وتفكيراً للإكمال مع الوصف والكتابة عما هو بغيض وما يبعث على اليأس. 

لكن تاريخ البشرية، وعلى كثرة تشعّباته وبقعه المُظلمة، يعطي أمثلة كثيرة على أن ذروات اليأس ليست نهاية الطريق، وأن مقاومة الشر وألاعيبه واجبة من كل ناحية ممكنة. ولعل هذا هو الدرس الأول والأهم في مقاومة غزّة. وقفت هذه المدينة المثخنة بالجرح المفعم، وقاومت الشر لآخر نفس لنراها اليوم في مرحلة التقاط الأنفاس المهمة والحرجة، ولترمّم ما يمكن ترميمه من ذاتها المنكوبة والمظلومة.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون