استمع إلى الملخص
- بسنيك مصطفاي، كاتب وناشط سياسي، شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي في ألبانيا وفاز بمقعد في البرلمان بعد أول انتخابات حرة في 1991، وعمل كسفير في باريس.
- في كتابه "بين الجرائم والسرابات"، يعبر مصطفاي عن خيبة أمله من التحول الديمقراطي في ألبانيا، مشيرًا إلى الفساد والصراعات داخل الحزب الديمقراطي.
بعد عقود من ترجمة الأدب الألباني المعاصر إلى العربية، التي اقتصرت تقريباً على كاتب واحد هو إسماعيل كاداريه، إلى درجة بدا فيها أن ألبانيا خالية من الكتّاب، بادرت دار "الآن ناشرون وموزعون" عام 2022 إلى نشر رواية "ملحمة صغيرة عن السجن" للكاتب بسنيك مصطفاي Besnik Mustafaj وقد حظيت الرواية بقبول جيد كونها تعرّف بجيل جديد من الروائيّين خرج من عباءة كاداريه (1936-2024) وأصبح معروفاً في أوروبا، بعد ترجمة الكثير من نتاجه الروائي المختلف عما اعتاد عليه القارئ العربي بسبب تجربته الغنية مع "القلعة الأخيرة للستالينية في أوربا"، كما كانت تُدعى ألبانيا.
وخلافاً لكاداريه وعلاقته المُلتبسة مع النظام الشمولي، الذي كان له الفضل في ترجمة رواياته إلى لغات عديدة في العالم، كان بسنيك مصطفاي ينتمي إلى الجيل اللاحق (مواليد عام 1958)، الذي شارك مع بعض الكتّاب والمثقّفين في التمرّد على النظام الشمولي. وقد بدأ هذا التمرّد باحتجاج طلّابي في نهاية عام 1990، وأرغم النظام على القبول بالتعدّدية السياسية، ما عنى كسر احتكار الحزب الشيوعي السلطة وتأسيس أوّل حزب غير شيوعي (الحزب الديمقراطي)، الذي شارك بسنيك وغيره من الكتّاب في تأسيسه، تحديداً في تاريخ 12/12/1990.
كما شارك بسنيك في تأسيس أوّل منتدى لحقوق الإنسان في ألبانيا، وصولاً إلى أوّل انتخابات برلمانية حرّة في ربيع 1991، التي فاز فيها الكاتب بمقعد عن حزبه في البرلمان الجديد. ثمّ بعد ذلك، ذهب إلى باريس باعتباره أوّل سفير لألبانيا الديمقراطية، حيث تلقّى عرضاً من الناشر الفرنسي المعروف أوبر نيسِن Hubert Nyssen، لتأليف كتاب عن تجربة الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في ألبانيا.
صدرت الطبعة الفرنسية بعنوان "بين الجرائم والسرابات" عام 1992، لتفتح الباب أمام طبعات أخرى، مثل الإيطالية عام 1993، والألمانية في عام 1997. كما نشرت نسخة جديدة من الكتاب عام 2019 بمناسبة الذكرى الـ30 لسقوط جدار برلين، حيث اختير ضمن أفضل 30 كتاباً عن انهيار الأنظمة الشيوعية، وبعدها صدر الكتاب في التركية عام 2023. وفي غضون ذلك، كانت قد نشرت خمس طبعات في اللغة الألبانية، آخرها عام 2022.
قرّر أن يستقيل من مناصبه السياسية كي يعود كاتباً
عرفتُ بسنيك شاعراً، كما كان عشية المواجهة مع الديكتاتورية. ونشرتُ له عدّة قصائد في 1990، ثم تعرّفت عليه روائياً وشخصيّاً، ما بين كوسوفو وألبانيا، خلال 2018-2024. أسهم المقال الذي نشرته عن رواية بسنيك "ملحمة صغيرة عن السجن" في "العربي الجديد" بفتح باب ترجمتها باعتبارها أوّل رواية له في اللغة العربية. ثم نشرتُ عرضاً لكتابه "بين الجرائم والسرابات" مع ترجمة لمقدمته المشوّقة في الجريدة نفسها، وبقيتُ أعود إليه من حين إلى آخر لأترجم فصلاً وأتوقف ثم أعاود حتى سقوط الديكتاتورية الأسدية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
حينها قررتُ إكماله لنشره، كونه يقدّم تجربةً غنيّة في الكفاح ضدّ الديكتاتورية ورؤية ما بعد الديكتاتورية. مع تجربة أوروبا الشرقية، ذاع صيت أنَّ الانتقال من الحكم الديمقراطي إلى الحكم الديكتاتوري أسهل من الانتقال من الحكم الديكتاتوري إلى الديمقراطي. ومن هنا كان عنوان الكتاب "بين الجرائم والسرابات"، فالجرائم تعبّر عمّا كان خلال الحكم الديكتاتوري، ولكن السرابات جاءت خلال فترة الانتقال إلى الديمقراطية التي طالت في ألبانيا. ومن الواضح هنا أنّه كان لدى المؤلّف أكثر من سراب، سواء في ما يتعلّق بالحلم الأول أو الحزب الديمقراطي الذي شارك في تأسيسه، أو في ما يتعلق بالحزب الشيوعي الذي قرّر أن يكون جزءاً من التحوّل للديمقراطية باسم "الحزب الاشتراكي".
شاءت ظروف حياتي أن أعايش أكثر من ديكتاتورية خشنة وناعمة ما بين سورية ويوغسلافيا وألبانيا. كنتُ في ربيع 1988 في دمشق، ضمن برنامج تعاون مع "الموسوعة العربية الكبرى"، في ما يتعلّق بالمواد المتصلة بالبلقان، وعلى رأسها ألبانيا والألبان لوجودهما في المجلد الأول. جاءتني دعوة المشاركة من قسم الموسوعة في "أكاديمية العلوم الألبانية" عام 1988 وحللتُ ضيفاً لمدة أسبوعين للاطلاع على تجربتهم والتزوّد بأحدث الإصدارات. كانت ألبانيا على أرض الواقع صدمةً بالمقارنة مع الصورة المتخيّلة عنها في كوسوفو المجاورة حيث كنت أعيش، ولذلك بالكاد بقيتُ أسبوعاً مع كلّ المغريات للضيوف القادمين من الخارج. تحجّجتُ بالتعب كي أغادر "الحلم بالجنة"، كما يقول ميلان كونديرا. كانت ديكتاتورية خانقة لا يزال أنور خوجا يحكمها من قبره (رحل عام 1985) وكان ستالين لا يزال شاخصاً بتماثيله في الدولة الوحيدة بأوروبا الشرقية.
كان المسؤولون والمرافقون الألبان في جولاتنا في تيرانا يفتخرون بأن المدينة أنقى أو أطهر عاصمة أوروبية، بمعنى أنها عاصمة خالية من تلوّث السيارات (لأنه لم تكن هناك سيارات في تيرانا سوى للحزب والأجهزة الرسمية) ومن المخدرات والدعارة. فقد كانت الأيديولوجيا الحاكمة خلطة فريدة من نوعها تجمع بين الماركسية المتشدّدة والقومية الألبانية. هكذا على الرغم من أن ألبانيا أُعلنت عام 1967 "أول دولة إلحادية في التاريخ"، فإنّها، من ناحية أخرى، لا تشجع على الجنس قبل الزواج.
صُنّف كتابه ضمن أفضل 30 كتاباً عن انهيار الأنظمة الشيوعية
ولكن بعد التحوّل للديمقراطية التي سمحت للألبان بحريّة السفر، انتقل ثلثُ الألبان إلى دول "الحُلم الأوروبي"، من اليونان المجاورة إلى بريطانيا، حيث ظهرت لاحقاً المافيات الألبانية التي تخصّصت في المخدرات والدعارة، وأصبحت ألبانيا الدولة المناسبة لغسيل الأموال بالتعاون مع النخب الجديدة في الحكم.
كان بسنيك كاتباً، أوّلاً وأخيراً. صحيح أنّه انشغل بالسياسة للتخلّص من الديكتاتورية وأصبح في العهد الديمقراطي نائباً في البرلمان وسفيراً في باريس ووزيراً للخارجية، ولكنه في لحظة ما من عام 2007، قرّر أن يستقيل وسط دهشة الجميع كي يعود كاتباً، وقد نجح في ذلك ونشر عدّة روايات تُرجمت إلى لغات عدّة، وغدا من أبرز كتّاب جيل ما بعد كاداريه.
لفت انتباه بسنيك آنذاك أن لا أحد من رفاق النضال لأجل الديمقراطية رغب أن يعود إلى مهنته السابقة التي برز فيها، لأنَّ "لذة السلطة" أصبحت حاضنة للمجد والفساد. غير أن "لذة السلطة" كانت مغرية أيضاً للحزب الاشتراكي المعارض، وريث الحزب الشيوعي، التي كان قد جرّبها سابقاً، وعاد إليها بقوّة بفضل دعم المافيات الألبانية التي تغسل أموالها في البلاد، ليستمر في الحكم منذ عام 2013، ويتحضر حالياً للانتخابات القادمة في 2025، خصوصاً بعد أن تشتّتت قوة الحزب الديمقراطي الذي قاد التحوّل من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، بسبب الفساد والصراع داخل أجنحة الحزب في السنوات الأخيرة.
لدى بسنيك، إذاً، أكثر من سراب في كتابه، وربما لهذا كتب خاتمة مطوّلة بعنوان "الحلم بالجنة"، حيث وضع فيها بجرأة النقاط على الحروف في ما يتعلق بـ"الربيع الألباني وسقوط الديكتاتورية"، موضّحاً المسافة الصعبة بين "الحلم بالجنة" و"الجنة التي يُنتظر أن تتحقّق"، وهو ما يمكن أن يكون مفيداً للحالة السورية وغيرها.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري، والنص مقتطفات من مقدّمة الترجمة العربية لكتاب "بسنيك مصطفاي بين الجريمة والسراب: عن الربيع الألباني وسقوط الديمقراطية"، الذي يصدر قريباً عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان.