بامبوس كوزاليس.. مجاورة الشِّعر للأشياء والناس

بامبوس كوزاليس.. مجاورة الشِّعر للأشياء والناس

28 فبراير 2021
(بامبوس كوزاليس)
+ الخط -

في مجموعة "قليل من الملح" للشَّاعر القبرصي بامبوس كوزاليس، الصادرة حديثاً عن "دار خطوط وظلال" بترجمة ميشرافي عبد الودود، شعرٌ فتيٌّ يَصدحُ في فضاءٍ مُتَسامِح. إذ يتكشّف الشِّعر عن كتابةٍ عبر الآخر ومن خلال حضوره، الآخر لدى كوزاليس رحمٌ يخرج منه الشِّعر، وهو آخرٌ يُنادَى منه ويُؤوَى إليه.

لقصائد الشَّاعر القبرصي تلك القدرة التي يمتلكها الشِّعر على أن يوهمنا بأنّ الأشياء التي تحدث دائماً، تحدث في قصيدته للمرّة الأولى. إنّ له تلك القدرة على جعلنا نرى التكرار مرّةً تلو الأُخرى، ونعتبره على الرغم من ذلك تكراراً بريئاً. نجد الشِّعر استباقاً لما يحدث، وفي الاستباق مناداة لحدوثه. تتماهى القصائد مع الزمن الماضي البعيد، الذي يتشارك فيهِ الأسلاف مع الكائنات والأشجار الطفولة ذاتها، وهو زمانٌ مُشتَهى أيضاً. كما في قصيدة نشرة طقس: "في هذا التقرير لحالة الطقس/ من زمن قديم جدّاً/ كان المطر يهطل بلا انقطاع/ بقطرات كبيرة/ كم أمكن راحة الطفل الإمساك منها؟/ وكيف يتسنّى مسبقاً إرواء/ عطش مرتقب؟".

يتحدّث كوزاليس عن أصوات منسية، ما يعزّز تصوّراً مفتوحاً عن الزمن. إلى جانب أنّه لا يصل إلى غاياتهِ، من ألفة وعناق وشعور بالآخر، وإنّما يبدأ من تلك الغايات ويعتبرها محتمة. فهو إن لم يمتدح حدوثها، فإنّه يشكو من غيابها، في جو من الرهافة والقلق يسم القصائد جميعها. في قصيدته "بندول" تتوضح رؤيته هذه: "يأتي النهار ويذهب/ مثلما رقاص الساعة/ يبدو منشغلاً بعدّ أجسادٍ/ تأتي وتذهب/ بلا مداعبة أو عناق". 

يرى القارئ في النصوص عزلة رجلٍ يتأمّل الوجود والطبيعة

يتأكَّد تصوّر كوزاليس الشِّعري حيال موضوعاتهِ، عبر اعتمادهِ على تصوّر حسّي عن العالم الذي يشيدُ خطاباً شعريّاً في موازاتهِ. بذلك نجدهُ يعمد إلى صورٍ شعريّة تتمثّل في الجسدِ ذاتهِ، مع الإشارة إلى أنّه جسدٌ امتلأ بالآخرين إمّا بحثاً عنهم أو تذكُّراً لهم. وفي الوقت الذي يحتفي بالجسد، يبدّدهُ إلى رغبات واشتهاء. كما في: "كلّما ضاق بي جسدي بأكثر ممّا أحتمل/ كلّما استطالت الطرقات"، "الوقت متأخر جداً/ يتقطّر الليل رويداً رويداً/ يتوقف العناق المتواصل/ مع تمام السادسة/ ينبغي على وجه السرعة/ العثور على جسد شاغر ليلاً". إذاً يتكثّف المعنى لدى كوزاليس عن طريق حشده للآخرين.

ويأخذ التلاشي الذي يعانيهِ، الذي هو امتلاءٌ بآخرين، بالازدياد مع العمر والتجربة. ويصل في مجموعة متفرّقة من القصائد يتحدَّث فيها عن العائلة، الأب والأُم والعمة، إلى محاكاة خاصة للطقوس، إلى حالٍ يتصالح فيه مع آلام وحدته. إنّه يساند العائلة بقدر ما تسانده باستخدام تصوّرات منزليّة؛ تمثّل المعرفة التي يحصّلها إنسان يعيشُ وسط الآخرين، ووسط الألفة التي تنشأ برفقة العائلة، في قصيدته "ابتسامة" أكثر مشاهد المنزل مثاليّة: "على الطاولة طبق من عجين الأرغفة/ تخمرت كما ينبغي/ قرأت في تشققاتها/ ابتسامة/ ستصير عما قريب/ سنبلة". لا يحتاج القارئ إلى الكثير من الجهد كي يتلمّس خط التجربة التصاعدي في القصائد، فكلّ قصيدة كانت تضيف وافداً إلى ذات الشَّاعر.

قليل من الملح - القسم الثقافي

يظهر البعدُ الذاتي في القصائد في توصيف علاقات كوزاليس مع ما ومن يعيشُ معهُ. وتتسق القصائد في دلالاتٍ مضبوطة؛ فما إن يستخدم اللغة للحديث عن الصمت، حتى يرى القارئ في تأمُّلات الصمت وشعريتهِ عزلة رجلٍ يتأمّل الوجود والطبيعة. وينتهي دائماً رجلاً وحيداً يبحثُ عن جسدٍ كي يغمره، يبحثُ عن جسدٍ كي يتقاسم معهُ تذكارات الآخرين وأخيلتهم. يظهرُ متفانياً ودوداً خالياً بمفردهِ: "أشعر بالغيرة من مراياك المتقابلة/ بأجنحتها المتعانقة/ التي تتناظر باستمرار/ أركض منادياً باسمك على كتفي/ ولا أجد أحداً لأسلّمه مشعلي/ أركض/ صارخاً عليك في رأسي/ حتى سماع ردك/ هل تسمعين استغاثتي؟/ في عالم مليء بالأزواج/ جسدي مبتوراً/ يلوذ بحضنك طالباً/ لجوء عشق".

وفي قصيدتهِ "مرآة" يظهرُ نرجسياً معتدّاً بعالمهِ، إذ يرافق صورتهُ ويراقصها، ويقصي ذاته عن الوجود خارجها: "«هل ترقص»/ كيف لا ألبّي دعوة/ مرآة بابتسامة محفورة في الخشب/ لطالما رقصنا كثيراً/ الرأس التي تنحني على كتفها/ تتلمّس شفرة النصل التي لا تُرى/ لطالما رأيتُ صورتها/ تنعكس/ على الحدقة الخائفة/ «يا له من رجل وسيم!/ إلهي، إنّه قاتلي»/ كيف لا ألبّي/ دعوة مرآة/ تتطلع عيونها في عيوني؟!".

في نسيج العلاقات المُعقَّد المُتشابِك ينمو الشِّعر

تتمثّل طريقةُ كوزاليس في الكتابة بالأسلوب المتمايز الذي يتناول الأشياء من حولهِ، وقد جعل من عيشهِ وحيداً فرصةً لبناء علاقاتٍ جديدة ومتنوّعة مع الأشياء التي تُشكِّل عالَمه. لذلك كان يظهرُ رجلاً مختلفاً بين مجموعةٍ نصوصٍ وأُخرى. لربما كانَ أحدٌ غيرهُ من ظهر في انعكاسِ المرآة، لربما أحدٌ غيره من لاذ بالآخرين. لكنَّ كليهما يمثّلان الشَّاعر، ففي نسيج العلاقات المُعقَّد المُتشابك ينمو الشِّعر، والكلمات التي تبدأ من العلاقة مع الأشياء، كانت في النهاية، تُصوِّر العالم الداخلي للشَّاعر.

يُوزِّع كوزاليس مفرداتهِ الشعريّة وموضوعاتهِ، بين عناصرَ باردة مهجورة وبين بشرٍ مقرّبين، هم سلوى الشَّاعر؛ ولو كانت لهم هيئة بشرٍ مخذولين ووحيدين ومُبعَدين، وهو يصف باستخدام إحداها حالَ الأُخرى: "الوشاح يتدلّى على مسمار في الجدار/ هذا المساء فاح صدري بعطر الخزامى/ عساه يتذكّر عطراً لطالما أحبه؟/ دسستُ خفية في جيبهِ أزهارها/ حتى يتذكّرني في منازل العالم السفلي".

كما لو أنّ الشَّاعر غير موجود إلّا عبر الآخر، والشِّعر غير متحقّق إلا بمجاورتهِ للأشياء والبشر. تغلّف هذه الحقيقة شعر كوزاليس في إطار يشيرُ إلى الزمن في مواضع كثيرة، لكنه في الوقت نفسهِ إطارٌ غير منتمٍ إلى زمانٍ محدَّد، بل إنّهُ منتمٍ إلى فضاء الشعر المترامي الحُرّ.

بطاقة

Pambos Kouzalis شاعرٌ من جزيرة قبرص، وُلد في مدينة نيقوسيا حيث يعيش اليوم. درس تاريخ الفن وعلم الآثار في جامعة أثينا، ويعمل في التدريس وينشط في الحقل الثقافي. بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية، شارك كوزاليس في إنتاجات مسرحية وتلفزيونية من خلال كتابة نصوص غنائية. نعثر في شعره على صوت شخصي، وخصوصية قبرصية تجمعه مع أقرانه الشعراء هناك، رغم انتمائهم إلى تقاليد الشعر اليوناني.


* كاتب من سورية

كتب
التحديثات الحية

المساهمون