استمع إلى الملخص
- الشعر يجمع بين الحدس الجمالي والفلسفي، حيث يعبر عن تجربة وجودية تتضمن أسئلة كبرى مثل الموت والمصير، ويخلق حدسًا فلسفيًا شعريًا يجمع بين الوجدان والعقل.
- يمتد الشعر إلى السينما، حيث يسعى المخرجون لتجسيد نبض الصورة وإيقاف الزمن، مما يجعل أعمالهم قصائد تتردد في ذهن المتلقي.
وُلد الإنسان بضوء خاص، نور فريد لا يتكرّر في أي إنسان آخر، وهذا ما يعكس النور الأوّل للعالَم. إنّ مهمّة الإنسان الأولى على الكوكب هي أن يتعلّم كيف يشعر به، ويحسّه ويدرّب نفسه على سماعه، ليس بأذنَي الجسد، بل بأذنَي القلب والروح وبالأعضاء التي يريد الشكل الظاهري الآلي أن يحتّلها، ويهيمن عليها، ويجبّها، وهي مناطق القلب، والجسد، والرئة، والمعدة، واللسان. مناطق الحب، والصداقة، والدهشة، والألم، والهموم، والآمال. مناطق اللغة، والعلاقة بين الكلمة والأشياء، مناطق أعماق الكائن الإنساني. ومناطق علاقته مع الآخر. هذه كلها مناطق الشعر.
في طقس تهبُّ فيه العواصف من كلّ صوب، وتنعدم فيه الرؤية بسبب الضباب، لن تُسعف الإنسان أيّ بوصلة إلّا تلك الموجودة في أعماقه. مَن درّب نفسه على الإحساس بضوئه الخاص ورؤيته، سينجو، ومن لم يفعل، ستأخذه الحوريات إلى أعماقها الآلية، أعماق العبث وعدم اليقين.
هذا الضوء الموجود في داخل كلّ واحد منّا هو السارية الوحيدة التي يمكن أن نتشبّث بها، كما فعل أوليس، وسط غناء الحوريات وعواصف الضياع والارتباك. فمن يقدر أن يكون أوليس في زمننا هذا؟ المبدعون؟
تتابع "العربي الجديد" ملف الشعر، بوصفه ذلك الضوء الموجود في داخل كل إنسان - مبدع. فكيف يشعُّ هذا الضوء في حياة كل منهم؟
جعفر العلوني
أحمد برقاوي: أنا والشعر
ليس باستطاعة شاعر أن يجيب عن سؤال لماذا هو شاعر. إنه ببساطة لا يدري، فالشاعر لم يعلمه أحدٌ أن يكون شاعراً. الموهبة لا تُعلّم لكنها تغتني بالتجربة والمعرفة والمعجم اللغوي. بل قل اللغة بيت الشاعر أو النبع الذي يروي عطشه، وشتان بين نبع ونبع. واختلاف المواهب من حيث الكيفية يقود إلى اختلاف الينابيع.
الشعر جمالياً معجم لغوي جديد وخاص بالشاعر وحده. إنه، أي الشاعر، يحوّل معجم اللغة الميت إلى معجم لغوي حيّ وحرّ. وإذا كان بعض الشعراء ونقاد الشعر يأخذون على الشعرية الروح الفلسفية وبأنها تلغي وظيفة الشعر الجمالية، فهذا لأنهم لم يعيشوا تجربة الاتحاد بين الحدس الفلسفي والشعر. إنه أسْطَرَة الشعور بالوجود في زي جمالي أخّاذ، هذه الأسطرة الموعى بها تنطوي على وحدة الحدسين: المعنى والجمالي. حتى إنّه يمكن القول إنّ الشعر الذي لا يتوافر فيه هذان الحدسان شعر ناقص.
وعبر أسطرة الموجود يحوّل الشعر اللغة إلى ميتا – لغة، وكلما غرق الشاعر في الأسطورة ارتفع باللغة إلى الميتا، حتى يمكننا القول: إنّ الأسطرة أحد أهم معايير الشعرية. هذه الميتا – لغة الأسطورية تحمل حدساً فلسفياً كما قلنا: نظرة إلى الدنيا، والحدس الفلسفي الشعري هو ظهور الفكرة ظاهرة أو خفية، ومن سمات الحدس الفلسفي الشعري أنه فكرة طليقة ترقص في ثوب مزركش وليست بحاجة إلى منطق أرسطو ولهذا هي حدس.
وعندي أن ليس هناك، في الشعر، انفصال بين الحدس الجمالي والحدس الفلسفي، والقرابة بين الشعر والفلسفة قرابة من الصعب فصلها. إنني وأنا أعيش التجربة الشعرية بوصفها كينونة - نمط وجود، أعيش الأرق الفلسفي عبر القلق الوجودي. فالموت والمصير والحزن والفرح والبحث عن المعنى وكل أسئلة الوجود الكبرى تحضر في تجربتي الشعرية فتخلق الحدس الفلسفي الشعري. ولكن حذار من اعتبار الشعر فلسفة، فليس هاجس الشعر قول الحقيقة والدفاع عنها، الشعر هنا وجدان فلسفي وليس عقلاً فلسفياً، والوجدان الفلسفي الشعري هو في النهاية تجربة وجودية وليس تأملاً بارداً بالعالم .
فالشاعر لا يسأل ما الموت؟ ما العدم؟ ما الحب؟ بل يعيش تجربة الموت فينقل الموت من التجربة المعيشة إلى الحدس الفلسفي – الشعر الكلي. وهذا هو معنى أن يحوّل الشاعر تجربته الوجودية المعيشة إلى تجربة كلية، والفيلسوف بدوره حين يعيش أسئلة الوجود الكبرى تجربةً ذاتية فإنه يعوّل على الشذرة الفلسفية أو الإهاب الأدبي للقول الفلسفي، فيمزج بين الوجدان والعقل فيما يظل الشاعر وجداناً خالصاً. بهذا المعنى، الشعر باتحاده بالفلسفة أخرجني من دائرة المألوف والمعروف والمعهود.
* فيلسوف ومفكر فلسطيني
دييغو دونسيل: حياة أكثر كثافة
الشعر وسيلة لتكثيف الحياة. فعلُ كشف. وكما قال الشاعر ويليام كارلوس ويليامز ليس هناك هزيمةٌ كاملة، فبعد كل هزيمة تنفتح عوالم غير متوقعة. وعلينا نحن الشعراء أن نكون شهوداً وأصواتَ تلك العوالم غير المتوقعة. ليس الأمر مجرد كلمات، إنها مسألة وعي: ذلك الوعي الذي يتشكّل في الأعماق ليرى ويكشِف.
لقد قضيت حياتي شاعراً، ودائماً كنت أحاول أن أقدّم مواقف يكون فيها الشعر جزءاً من أفعالي. وعلى غرار الرسامين، دائماً كان طموحي أن أخرج مثلهم كي أرسم وردةً، أو شارعاً، أو منظراً طبيعياً، أو وجهاً، كان طموحي مثلهم أن أرسم الصمت أو الجموع في الشوارع، أن أرسم الزمن أو الذاكرة. وفي محاولتي أن أكون شاعراً، سعيت دائماً لإقحام ما أطلق عليه بيرغسون وبيتر هاندكه "الديمومة".
حين يكتب المرء قصيدة أو يعيش شاعراً، فإنه يحاول أن يكون في لحظة لا تُنسى، في نوع من السعادة أو نوع من العزاء. كانت أيامي في الشعر تحاول إنقاذ الجمود العظيم للأشياء البسيطة والمشاعر اليومية، وتحويلها إلى تلك العوالم غير المتوقّعة. أردت أن تمر أيامي في الشعر في مكتبات الحياة، أعني في الكتب وما وراءها: قطع العشب في الحقول والكتابة، التنزّه، الحديث مع الأصدقاء والكتابة. بهذه الطريقة وحدها كانت كتابتي جزءاً من حركة تلك الكثافة التي تحرّك الأشياء، وتحركنا نحن البشر.
لا أحبَّ الشعراء الموظّفين، الشعراء الذين لديهم جداول زمنية للكتابة، الشعراء الذين يعتقدون أن الشعر وسيلة لتحقيق اعترافٍ اجتماعي. لو كنت واحداً منهم، كنت تجمدتُ من الداخل، نحن الشعراء نمتزج من تدفق الكلمات التي تأتي من الجذر الإنساني، وهذا تحديداً ما يحدّد "ديمومتنا"، تلك الطريقة التي ننتزع فيها من الحياة حياةً أكثر كثافة.
* شاعر إسباني
جود سعيد: الموتُ شعراً
تربيتُ على الشعر من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر. بتّ أرى الجمال حتى في القبح، وربّما لا يعرف الكثيرون أنَّ تجاربي الشبابية في الكتابة نُشرت في مجلة "معابر" منذ أكثر من عشرين عاماً. من هنا، أعتبر نفسي وسينماي أبناء القصيدة. تكوّنت معرفتي بدءاً من المتنبي إلى أبي تمام وأبي نواس، مروراً بالمعري والرندي وليس انتهاءً بالنقائض وقبلها المعلقات. ولا أنسى لهفتي للصوفيّين كالحلاج وابن عربي واستمراراً بنصوص محمود درويش وأدونيس.
ازداد تعلّقي بالصورة المحسوسة في الشعر مع بول إيلوار ورامبو حين درست السينما في فرنسا لأجد الشعر صورةً حيّة مع بازوليني وتاركوفسكي وبيرغمان، أو ليكون الشعر قصيدة مُغناة كما عند فيليني وكوستوريتسا، أو تأمّلاً دهرياً بين صور كيروساوا.
حاولتُ في السينما أن أحسّ بنبض الصورة الموقفة للزمن، ومن هنا أحياناً أتهم بضلال الإيقاع الحكائي أو الخروج عن النص - النوع وأعي ذلك وأقبله؛ لأن ما أجرّبه هو جعل هذه الصورة المتحركة إيقافاً للزمن في عزّ سيلانه لتبقى كلمةً أو جملةً مجردة في ذهن المتلقي وهذا بعضٌ من تجليات الشعر.
أحبُّ الموت شعراً؛ أي أن تبقى أعمالي قصائد تتردّد. ربما هي أمنية مغرورة، لكن تستحق الحياة أن تُعاش لأجل هكذا غرور.
* مخرج سينمائي سوري