اليوم العالمي للشعر: كيف تُغني القصيدة حياة المبدعين؟ (2/1)

21 مارس 2025
امرأة أمام تمثال الشاعر الغرناطي فيدريكو غارسيا لوركا في ساحة سانتا آنا بمدريد (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في جبال الأورال، أدى جدال حول الشعر والنثر إلى حادثة قتل، مما يبرز تأثير الشعر العميق. الشعر يتجاوز الكلمات ليمنح الأشياء أسماءً ويحول اللحظات العابرة إلى أبدية.
- وديع سعادة ومارسيل خليفة وروزابيتّي مونيوز يرون الشعر كوسيلة للخلاص والحب والتعبير عن الذات، مؤكدين على دوره في بناء صور مستمرة وتقديم لغة مدهشة.
- سعيد خطيبي وأبو زيدون حنوش يرويان تجاربهما مع الشعر كوسيلة للتعبير والفن، حيث يعتبرونه بصيرة لفهم أعمق للعالم.

في جبال الأورال الروسية، قتل معلمٌ سابق صديقه بعد احتدام جدال أدبي بينهما، وهما مخموران، حول ما هو أفضل من الآخر: الشعر أم النثر. وتحوّل الجدال إلى شجار انتهى بقتل عاشق الشعر الكهل لخصمه. هذه الحادثة حقيقية، ولم يخترها شاعر لترويج شعره، وهي مثال لما قد يفعله حب الشعر بإنسان ما.

فالعيش في ظلّ الشعر درجة عليا في مستوى الحياة، يكون فيها الشعر لصاحبه كرةً مشتعلة تتحرك تلقائياً في الاتجاهات كلها، حاملة الشغف وحامية للدهشة والأمل. فنقرأ ثُفل القهوة في قعر الفنجان، ونجد الشعر ينتظرنا هناك ليتكفّل بأحلامنا. لكن عدم كتابة شخص للشعر لا تعني أنه ليس شاعراً. الفرق فقط أن الشاعر الذي نعرّفه بذلك يملك مفتاح الكلمات، فنعترف بملكته بحكم مهارته تلك.

بينما الشعر كشعور لا يوجد في الشعر حصراً، بل هو جوهر كافة أنواع الفنون. من الموسيقى إلى التشكيل إلى السينما، وإلى برهة من الحياة أو لحظة حب أو كيمياء بين شخصين يلتقيان لأول مرة... لكن هذا كله ليس له وجود ملموس في غياب فن الشعر المكتوب، لأن الكلمة وحدها من تسمّي الأشياء. ولن تمنحها التعابير الأخرى اسماً أو تعريفاً يجاوز ذلك. وحدها الكلمة القادرة على إمساك شعور وإعطائه صوتاً يحوّل تواصلاً عابراً للحظة إلى شيء أزليّ. وحدها الكلمة، وحده الشعر.

لذلك بدل السؤال ذي المعنى القليل عن جدوى الشعر، أعدّت "العربي الجديد" هذا الملف بمشاركة جمعٍ من الشعراء والكتّاب والفنانين، وسألتهم: كيف يُغني الشعر الإنسان؟

                                                                                                         عائشة بلحاج


وديع سعادة: ماذا يبقى؟

وديع سعادة - القسم الثقافي
الشاعر اللبناني وديع سعادة

الشعر بالنسبة إليّ هو خلاصٌ لحظوي: لحظة كتابة القصيدة. وأراه، بمعنى ما، حلم تغيير هذا العالم وجعله عالماً جميلاً. لكن هذا الحلم الشعري لا يتحقق. هذا الحلم هو وهْم، وعلينا أن نحتفظ بهذا الوهم، وهم التغيير. وإلا إذا فقدناه ماذا يبقى لنا غير اليأس المطلق؟"
 
* شاعر لبناني


مارسيل خليفة: وعود من العاصفة

الفنان مارسيل خليفة
الفنان اللبناني مارسيل خليفة

عشتُ في هجرةٍ منصوبة على تخوم في حقل من زنبقٍ وكان الشِعر مُنزلاً في الريح. في خرير الماء ونسمة الهواء وانكسار الضوء على وردة خجلى، من مئذنة ترفع الأذان إلى أعلى تسمعه وطفل في الكنيسة يتعمّد ترمقه. الشِعر هو التجلّي. تتكسّر الحدود على رهبته. هو الحب في طهره القليل وفي خطيئته الفاتنة. وكان العود في بهاء ريشته ووجع أصابعه يخلد لهدأته مع إيقاع القصيدة. "وعود من العاصفة" تتحقّق في لمسته.

وتبدأ الرحلة مع الشِعر بحنين إلى المكان الأول الذي تركه الطفل صغيراً كما يترك الرُحَّلْ خلفهم رَبعاً انتجعوه برهة بين هجرتين. بتقاسيم على مقام البيات، كأنّ العود غجري لا يحترف المكان إلّا لينسخه بغيره ويقيم له في المكان مكانه. وتعلو قصيدة بيروت من صنع القلب والخاطر. وحيفا طين من الصُوَر تعجنه غنائية أحمد العربي وتنحدر إلى قلب المدينة باحثاً عن عصافير الجليل ومزيداً من أثقال الذاكرة حيث "كان لا يتعبني في الليل إلّا صمتها".

ثم يحجب القمر فتنة الليل عن قلب المدينة وتخافه وتصرخ "خبئيني أتى القمر" وقصيدة "أنا يوسف يا أبي" عندما "رأيت أحد عشر كوكباً" وكل شيء من المشتهى تداعى ولم ترضَ بمحاكمة - القصيدة - الأغنية في قلب بلد الإشعاع والنور تحت أنظار المتشددين الذين أوقعوك في البئر.

قامت الدنيا ولم تقعد وانتصر القضاء للشِعر في فَكّ عزلته وفي تهمة المنع بغير حق. ومن أجل أن يكتمل المشهد تعالت تلك الصرخة مع صوت الأرغن يصدح "إلهي لماذا وعدت الجنود بكرمي الوحيد" لتطير بعدها إلى أندلس الحب. تكتب، تنقّح، تمزّق كي تصل بعد مخاض عسير إلى ولادة جديدة للديوان الشعري الكامل للجدارية. مئة صفحة على بساط الموسيقى. ورغبة وارفة أن تترك أثراً وشهادة على تجربة مشتركة مع صديقك "الشاعر" في مرثية الحقيقة الأبديّة.

لا موسيقى تعلو إلّا حين يتقمّش الأفق المزيّن بالشعر. وستبقى الموسيقى ملح القصيدة يمددها في الزمان كإكسير الحياة. يقيناً بأنه ما زال هناك شِعر في هذا العالم ينقذنا.

* مؤلف موسيقي ومغن وعازف عود لبناني


روزابيتّي مونيوز: طريق حياة

الشاعرة التشيلية روزابيتّي مونيوز
الشاعرة التشيلية روزابيتّي مونيوز

الشعر دفة نجاة، درع. في هذه المتاهة من الأصوات التي تحتل المساحات العامة والخاصة، يسمح لنا الشعر بسماع صوتنا الخاص. يسمح لنا أن نترك أنفسنا للصمت كي نسمع صوت من نحن حقاً، ومنه نخرج للقاء الآخر، ونقدم له اللآلئ والكنوز الموجودة في داخلنا. هذه هي مهمة الشعر الحقيقية.

ولما كانت النظرة الشعرية تكشف العلاقات العاطفية الخفية بين الأشياء، فإن قوتها تكمن في بناء صور تشعُّ وتستمر في الإشعاع، حتى وإن لم تكن في المقدمة؛ صور تعمل في صمت وسكون. أفكر في تلك الكلمة التي تتشقق برطوبة هذه الأيام الكربونية، وتقدر على جعل المعنى العميق مفهوماً، تلك الحجرة الهانئة من أجل الوعي.

لقد اخترقت الثرثرة الفارغة اللغة التي نكتب ونتحدث بها، اخترقتها لغة وسائل الإعلام المستمرة؛ أفسدتها لغة الخطابات العامة. ونعرف حين تفسد الكلمات، يتفكّك المجتمع. مع ذلك كله، يبقى الأمل بلغة أخرى مدهشة تخلق نفسها عبر الزمن بفضل الشعر. إن لم يكن الشعر مكاناً للقاء والفعل، فما فائدته؟

الشعر كلمات تحمل رؤية للعالم. إنه أيضاً صمت ضروري، وسكينة مرغوبة كي نحيا في المجتمع. إنه حوارٌ وأسئلة واضطراب: مساحة للشك.

الجسر الحقيقي هو الكلمات – أفكر–. إنه الأرض الأكبر الذي أشعر فيها بأنني مواطنة. هو مادة الحب المتجسّدة في الإنسان وعمقها الذي لا قرار له. 

* شاعرة من تشيلي


سعيد خطيبي: الخوف من رامبو

الروائي الجزائري سعيد خطيبي
الروائي الجزائري سعيد خطيبي

على بعد نصف ساعة من بيتنا، في جنوب الجزائر، كانت السوق تلتئم، كل جمعة. من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً، مع استراحة ساعة الصلاة. وككل الأطفال كنت أقصد المكان، ليس من أجل اقتناء سلعة أو بيع أخرى، بل من أجل مقابلة "المدّاحين"، هكذا نسميهم. إنهم شعراء لا يعرفون الكتابة، لكنهم يؤلفون قصائد أو يحفظون أخرى. يتناقلون فنهم باللسان والسمع. وينتظم الناس من حولهم، على طرف السوق، ثم يتناوبون في التقدّم إلى وسط الحلقة، يلقون قصائدهم، وبحسب إعجاب الناس بها ينالون دنانير. وتستمر الحلقة كذلك طوال اليوم، إنها أشبه ببرنامج ستار أكاديمي، لكن المغني ينوب عنه شاعر، والجمهور لا يصوت برسائل نصية، بل بحفنة دراهم. ينال الشاعر رزقه ثم ينصرف إلى سوق أخرى في اليوم التالي.

هذه السوق امّحت من الوجود قبل عشرين سنة، نمت مكانها بنايات، فقد أكل الإسمنت والحديد قصائد "المداحين". وإذا سألني أحد عما ترسّب في ذاكرتي من ذلك المكان، فإنني أعجز عن الإجابة. امّحت من بالي كذلك صور الباعة وزبائنهم وصخبهم. لم أعد أتذكر ماذا كانوا يعرضون من سلع، لكنني أتذكر حلقة الشعراء. لحظة الشعر وحدها كفيلة بإيقاظ الذاكرة. أتذكر المداحين وأنسى الباعة الذين كانوا يطوفون من حولهم. فلا شيء يعيد الإنسان إلى مكان سوى ذكرى قصيدة قرأها أو أصغى إليها. مثلما يعود جانٍ إلى مسرح جريمة، فنحن نعود إلى مكان أصغينا فيه إلى قصيدة. كما أظن أن الشعر أوصلني إلى الرواية.

أتذكر جملة كتبها فيكتور هيغو في شبابه، مفادها: "إذا لم أصر مثل شاتوبريان، فإنني لا أستحق صفة كاتب"، في إشارة منه إلى الكاتب الفرنسي الشهير شاتوبريان. وللمفارقة أن هيغو صار أشهر من معلمه. تغلب التلميذ على الأستاذ. ومثل هيغو، قلت في نفسي: أود أن أصير مثل آرثر رامبو. لم أقصد أن أصير شاعراً أو معروفاً، بل شغفت بمغامرته في الكتابة وفي الحياة. بل أحمّل رامبو خوفي من كتابة الشعر. من يقرأ له سوف يحسب ألف حساب قبل أن ينسب إلى نفسه قصيدة، قبل أن يدّعي صفة شاعر. مع ذلك فقد تعودت اقتناء كل ما يتاح من طبعات جديدة لأعمال رامبو، أو ترجمات له بالعربية، لأن الشعر يجب أن يقرأ مرتين لا مرة واحدة. وأتذكر ما أصابني من أرق في الأيام الأولى التي حل فيها وباء كورونا.

كنت أصل الليل بالنهار. يصاحبني شعور بالقلق. ولحسن الحظ، توصّلت في تلك الأيام إلى ترجمة عربية لأعمال رامبو، لم يسبق لي مطالعتها. فرحت بها مثل فرحة طفل يرى البحر لأول مرة. ومع العودة إلى أشعار رامبو تصالحت مع النوم، بل صارت الأحلام تزورني بعد غياب. سمعت أن الشعر يليق علاجاً، لكن لم أتخيل نفسي أن أصير مريضاً وأن الشعر سوف يشفيني. وأنا مدين إلى آرثر رامبو أن تعلمت منه مغامرة الكتابة، مثلما تعلمت منه مغامرة النوم.

قلت إن الشعر أوصلني إلى الرواية، والأصح أن الشعر يتحمل وزر ومحاسن كل ما يحصل ولم يحصل لي. عندما نسأل روائياً عن أول شيء نشره في جريدة أو مجلة، فإن الإجابة في الغالب تدور بين قصة قصيرة أو فصل من رواية، بينما أنا فإن أول مرة رأيت فيها اسمي مكتوباً في جريدة فقد كانت ترجمات شعرية من الفرنسية إلى العربية. بدأت قارئاً للشعر ولا أزال. كلما فرغت من مخطوطة جديدة، أخلو إلى استراحة، أقضيها في مطالعة الشعر، قبل العودة إلى المخطوطة في المراجعة والتدقيق. أذهب إلى الشعر بحثاً عن قصائد جديدة، مثلما كنت أذهب إلى الجبال، في صغري، بحثاً عن عصافير نادرة. فالشعر يعلمني اقتلاع الأعشاب الضارة من النص. يعلمني الحذف. من لم ينحت لغته بالشعر فسوف يصيب قارئه باكتئاب. وبينما الشعراء يهجرون إلى الرواية، لا يزال كل روائي يخفي، في قلبه، سراً بأن يصير شاعراً.

أظن أن الشعر أخطر من السرد. لأن الرواية تمارس لعبة الإخفاء، بوسع كاتبها أن يتخفى وراء شخصيات متخيلة، بينما الشعر لا يحتمل عدا الإفصاح. فالشعر كتابة فاضحة، لا تخفي ما يدور في بال صاحبها، بينما الرواية تتوارى خلف حجاب. حياة الشاعر في نصه، وحياة الروائي خلف نصه. نتعلم من الشعر الصدق ومن الرواية نتعلم الصبر.

* روائي وصحافي جزائري


أبو زيدون حنوش: حياةٌ موازية للحياة

أبو زيدون حنوش
الرسام التشكيلي أبو زيدون حنوش

يُعدُّ الشعر من أقدم وأرقى أشكال الفنون الأدبية التي عرفتها الإنسانية، فقد كان ولا يزال وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بأسلوب جمالي يجمع بين الإيقاع والمعنى العميق والخيال الضروري للتقبّل أو لتسهيل الصعوبات وأحياناً لفهم تعقيدات الحياة ذاتها، وكذلك عيش حياة أخرى موازية للحياة نفسها.

من هذا المنطق، وفي رسوماتي ومنذ بداية حياتي المهنية كفنان تشكيلي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وإلى الآن، كنت أتجنب دائماً استخدام التظليل والتشريح والمنظور، لا رغبة في إبداع أي وهم مشابه للعالم الواقعي، بل رغبةً في عدم تمثيل العالم كما هو وتجريده من الجاذبية ومن الزمان والمكان، تماماً كما يفعل الشعر حيث يخلق حياة داخل الحياة. فهو الذي أعطاني الحرية الكاملة أكثر مما أعطاني إياها الرسم ذاته. 

أعمالي الأخيرة: "الحلم الثالث"، و"خيوط النور"، و"أغان إلى عشتار" و"شهرزاد والليالي العربية" و"الشعر المرسوم" هي كلها مستوحاة من تجربتي الحياتية ذاتها، وقد رسمتها من خلال ذاكرة عيني، كمراقب للعالم من حولي، تماماً كمثل الطائر الذي يتجول فوق شجرة، من غصن إلى غصن، دائماً برفقة الشعر. 

ضمن هذا المعنى، لطالما كان الشعر، سواء العربي أو العالمي، أحد أهم مصادر إلهامي، فقد منحني تأثيره النفسي، إضافة إلى إمكانيات هائلة تساهم في رسم سردية عملي. هكذا غصت عبر الشعر في الرسم لأجسّد المعنى الشعري مرسوماً، ساعياً إلى أن يكون عالمي الفني قصيدةً أو ما يمكن أن يقود إلى هذا التأويل. 

في "الحلم الثالث" و"خيوط النور"، وهي عناوين ملائمة يمكن أن تكون ملائمة لقصائد البياتي، والتي كانت لي صلة به في عهد الثمانينيات حين كان يعيش في مدريد، وكذلك في غيرها من الأعمال التي استلهمتها من قراءاتي المستمرة للشعر، حاولت خلق نسق فيه مفهومان متوازنان كالشعر لا يمكن إدراكهما في آن واحد، لأنهما يخلقان في الذهن حالة من الإيهام أو من شرك عالمين بأبعاد مختلفة: الخطوط ومساحات اللون والضوء والظل وغيرها من العناصر التي توهم ببعد ثالث. كل ذلك من أجل إقحام الشعور العميق بالزمان والمكان، وهي حالة من حبس اللقطة الآنية ومزجها كأن المتلقي يحتاج إلى شخصين في وقت واحد من أجل استيعاب البنية المزدوجة. وهذا في العمق رؤية شعرية للفن واللوحة قائمة على البصيرة قبل البصر وعلى الشعر قبل الرسم. 

يقول جبران: "ليس الفن ما نصوّره، ولا الشعر ما ننظمه. الفن هو أن ندرك بأرواحنا ألفة الحياة فنؤلف ما بين أفكارنا ومنازعنا وأقوالنا وأعمالنا حتى لا يبقى فينا من نقيض يناهض نقيضاً. والشعر أن نجد لأيامنا وزناً ولليالينا قافية".


* رسام تشكيلي عراقي مقيم في إسبانيا

 

كتب
التحديثات الحية

 

المساهمون