استمع إلى الملخص
- التقنيات الحديثة في دراسة المخطوطات: تناولت الندوة إمكانات الذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية في تحليل المخطوطات، وأكدت على أهمية دمج التحليل الخوارزمي والفهم السياقي لتطوير الدراسات.
- جماليات المخطوط المغربي: اهتم المغاربة بالمخطوطات كتحف فنية، تميزت بالزخارف والتذهيب، وعرضت الندوة نماذج من المخطوطات المغربية لإظهار تطور هذا الفن.
تشكّل الوراقة المغربية مجالاً ذا خصوصية في عالم المخطوط المكتوب باللغة العربية على مدار قرون من الحضارة العربية الإسلامية. والوراقة مع شيوع ممارستها في أرجاء العالم الإسلامي كله بقيت الأكثر تميزا في التجربة المغربية بوصفها ثقافة ونظاماً معرفياً استمرت بنيته المؤسساتية حتى بدايات القرن العشرين.
يعود الباحثون في أماكن ومواعيد مختلفة ليقفوا على هذا التراث المقدّر بمئات آلاف المخطوطات، كما في "مكتبة قطر الوطنية" حيث اختتمت أول من أمس الثلاثاء ندوة "الوِراقة المغربية وصناعة المخطوط: مقاربات في المواد والتقاليد والوظائف" التي استمرت يومين، وبحثت فيها تاريخ الوراقة وصناعة المخطوط في المغرب، ودراسة تقاليد التأليف والنسخ، وتطور المواد المستخدمة في الكتابة، وانعكاساتها على تداول المعرفة.
والندوة وهي ضمن فعاليات العام الثقافي "قطر - المغرب 2024"، واحتفاء بـ "يوم المخطوط العربي 2025" برعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، استعرضت إمكانات التقنيات الحديثة في دراسة المخطوطات، مثل الذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية، في تحليل المخطوطات ودراستها، مع الحفاظ على مرجعياتها التراثية والبحثية.
استكشاف آفاق جديدة مثل دمج التحليل الخوارزمي والفهم السياقي
وانقسم يوما الندوة ما بين المحاضرات النظرية في اليوم الأول، وفي الختامي ورشات عمل مغلقة، وجلسة عملية: دراسة تطبيقية وتحليلية لمجموعة مختارة من المخطوطات المغربية من مقتنيات قسم التراث في "مكتبة قطر الوطنية"، وهي بإشراف محمود زكي، أخصائي المخطوطات بالمكتبة، ومعز الدريدي، أخصائي أرشيف أول.
وقال محمود زكي وهو منظّم هذه الفعالية، إن أدوات الذكاء الاصطناعي تفتح أمام الباحثين اليوم آفاقاً غير مسبوقة في تحليل المخطوطات واستخلاص محتواها، مؤكّداً أنّ الرقمنة وحدها لم تعد كافية، بل أصبح من الضروري استكشاف آفاق جديدة مثل دمج التحليل الخوارزمي والفهم السياقي، وهو ما تسعى إليه المكتبات والمراكز البحثية من خلال مشاريع بحثية وتطبيقات عملية تسهم في تطوير دراسات المخطوطات وتوسيع دائرة الوصول إليها.
المنتسخات
وكان برنامج اليوم الأول مزدحماً بالوراقة والتاريخ والوظيفة الثقافية، والاستهلال بدأته محاضرة "المنتسخات المحققة في المغرب والأندلس: خطية عتيقة من الشفا للقاضي عياض" وقدمها محمد الطبراني أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض مراكش.
وفيها تناول التقاليد العريقة التي عرفتها بلاد المغرب والأندلس في نسخ وتحقيق كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض"، إذ كان "الشفا" من أكثر الكتب ذيوعاً وانتساخاً، وهو الكتاب الذي أفرد الطبراني لنسخته المغربية حصة مقدرة، وهي النسخة التي وصفها بأنها "باذخة وأمثولة".
دراسة تطبيقية وتحليلية لمجموعة من المخطوطات المغربية
ثم تقاسمت ساعات اليوم جلستان، الأولى التي ترأسها وجيه كوثراني، أستاذ التاريخ في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، وناقشت عدّة عناوين فرعية بما فيها العنوان العريض المتعلّق بتاريخ المخطوط المغربي.
رشيد العفاقي، الباحث في تاريخ المكتبات في المغرب والأندلس كان أول المتحدّثين في ورقته "تاريخ المكتبات وخزائن الكتب في المغرب" وذلك عبر أحد عشر باباً، أي صنفاً، استهلها بباكورة هذه الخزائن في قرطبة الأندلسية، وهي خزانة الحكم المستنصر بالله (915- 976 م) في قرطبة (القرن 4هـ)، وفي المقابل كانت خزانة الأمير يحيى الرابع الإدريسي قبل التاريخ الأندلسي بمئة عام أول خزانة مغربية سلطانية تذكرها المصادر التاريخية.
ومرّ العفاقي على الخزائن بأنواعها ومنها الخاصة، مقتصراً كلامه على أشهر واحدة منها في المغرب إبان العصر الوسيط، وهي خزانة أبي الحسن الشاري الغافقي، صاحب المدرسة الشهيرة بسبتة وخزانتها العلمية، وقد وصفت المصادر أبا الحسن الشاري بـ"نادرة زمانه في جمع الكتب".
الإسكوريال
في ورقته "مكتبة الزيداني: رحلة مكتبة مغربية ملكية من المغرب إلى الإسكوريال" عرض البشير التهالي، أستاذ التعليم العالي في "جامعة ابن زهر" رؤية مختلفة للخزانة السلطانية الزيدانية المحفوظة في "دير الإسكوريال" في ضاحية العاصمة الإسبانية مدريد. يقترن حضور هذه الخزانة في أذهان المهتمين بالمخطوط العربي عادة بصورة الفقدان الشبيهة إلى حد ما بضياع الفردوس الأندلسي.
حاول التهالي، وبعد أن عرض السياق التاريخي لانتقال هذه الخزانة إلى الإسكوريال، تقديم رؤية أخرى للخزانة السلطانية تنخرط في سياق توجه علمي ظهرت جدارته في إدراك أعمق لوضعية الكتاب المخطوط والمكتبات الضامة له، من الناحية التاريخية والمادية والنصية.
وقد عمل الباحث على بناء صيغة لفهم تكوين الخزانة الزيدانية، وتشكّلها عبر المراحل التاريخية لدولة السعديين في المغرب، اعتماداً على الحقائق التي تقدّمها المخطوطات نفسها، في المقام الأول، مستمداً أبرز مضامين ورقته من النتائج العلمية التي انتهت إليها أوسع دراسة علميّة أنجزت في الغرب حول خزانة الإسكوريال: "كتب السلطان": فرانسوا ديروش، نوريا ديكاستيا، البشير التهالي، باريس 2022.
اهتمام التهالي بهذه الخزانة طويل المدى، وهو يتتبع مصير ثروة من الكتب سطا عليها الإسبان في بدايات 1612، عندما كانت سفينة مغربية في عرض البحر محملة بصناديق كبيرة تحتوي على كتب ومخطوطات نادرة.
مهن الوراقة
وعرضت ورقة "مهن الوراقة وحركة الكتب وتداولها في المغرب" لأحمد الصديقي الأستاذ في "جامعة الحسن الثاني"، الدار البيضاء لتاريخ تعزّزت فيه الوراقة بفضل تجذّر مختلف الأنشطة الاقتصادية الحضرية بالمغرب، مستشهداً بقول ابن خلدون حول الصنائع "إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والارتقاء تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة".
وتزامن ذلك وفق خلاصة الباحث، مع توسّع العمران وتنشيط حركة التمدّن التي عرفها العالم الإسلامي مشرقاً ومغرباً منذ القرنين العاشر والحادي عشر ميلادي؛ الأمر الذي مهّد لحركية وراقية مهمّة "اختصت بالأمصار العظيمة"، لا سيما خلال فترات السلم العامة التي كانت تسود إبان قوة الدول التي حكمت المغرب، علاوة على تطورها بفضل الخبرة البشرية والمقومات الطبيعية المتاحة.
تاريخ آخر
وقدم خالد زهري أستاذ التعليم العالي بـ"جامعة عبد المالك السعدي" في تطوان ورقة حول "النصوص المصاحبة للمخطوط: مفاتيح جديدة لفهم التاريخ المغربي". وسعى الباحث من خلال مقاربات كوديكولوجية، إلى الكشف عن حقائق معرفية جديدة، تسهم في فهم التاريخ المغربي، وإعادة النظر في بعض المسلمات التاريخية التي أثبتت المعطيات الكوديكولوجية أنها تحتاج إلى تصحيح، أو استكمال، أو إضافات معرفية غابت عن المؤرخين أو وقع تناسيها أو تجاهلها.
ومما يدرسه الباحث معطيات مثل "ورقة العنوان"، و"التقميشات"، و"الإجازات"، و"الطرر"، و"التحبيسات"، و"أوراق الطير"، و"الهبات"، "التملكات"، و"حرد المتن".
وثمة الكثير من المعارف التاريخية التي تزخر بها هذه المعطيات، مثلاً العثور على كتاب مخطوط في أصول الفقه، هاجر من مدينة وادي آش الأندلسية في زمن سقوطها بيد الصليبيين، ليستقر في المغرب الأقصى، وما تحمله هذه الهجرة من دلالات تاريخية في غاية الأهمية. أو تفنيد دعوى أن السلطان محمد بن عبد الله العلوي حارب تدريس كتب الكلام والمعقولات، حيث وقف الباحث على عدة تحبيسات بخط يده لمخطوطات كلامية على طلبة العلم في المدارس والمساجد.
تقنيات الوراقة
الجلسة الثانية التي أدارها معز الدريدي، أخصائي أرشيف أول بالمكتبة التراثية، وركّزت على الوراقة بوصفها صناعة، وبدأها محمد سعيد حنشي، الباحث في الخزانة الحسنية بالرباط بورقة "المخطوط في الغرب الإسلامي: الحوامل المادية والأحبار" متناولاً أنواع الحوامل التي كتبت عليها المخطوطات في الغرب الإسلامي، وفي مقدّمتها الرق الذي ظلّ مُستعملاً في بلاد المغرب إلى القرن التاسع للهجرة، (الخامس عشر ميلادي) خصوصاً في كتابة المصاحف ومخطوطات الحديث.
وكان للمغاربة عناية خاصة بإعداد الرقوق وصباغتها، كما اشتهر الورق المغربي والأندلسي في أنحاء المعمورة خصوصاً الورق الشاطبي الذي كان يضرب المثل بجودته، واتخذ الكتاب في المغرب أشكالاً مختلفة أبرزها الشكل المربع الذي بقي مستعملاً قرنين من الزمن.
وفي الشق الثاني من مشاركته تطرّق إلى أنواع الأحبار التي كُتبت بها المخطوطات في الغرب الإسلامي، سواء كانت رقاً أو ورقاً، وكان للمغاربة عناية خاصة بإعداد بعض الأحبار الخاصة بالسلاطين، وتفردوا بإعداد أحبار أخرى كانت تكتب بها المصاحف الخزائنية، والتي تعدّ من فائق العنبر، وتُسقى بالمسك والورد والزهر، وتنشّف بمسحوق الذهب، ويضاف إليها بعض المواد الصارفة للحشرات كعصارة نبات الحنظل والصبر والكافور.
وطرح محمد عبد الحفيظ الحسني، الباحث في تاريخ الخطوط المغربية "محاولة في تصنيف خطوط المغرب والأندلس: مساراتها وتطورها وتأثيرها" ورأى أن الخطوط المغربية والأندلسية تأثرت في تطورها بعدة مدارس إقليمية كانت موجودة في الغرب الإسلامي منذ ما قبل العصر المريني إلى حدود نهاية العصر الوسيط. كما عرج على أصناف الخط المغربي وأساليبه التي استقرت كما هي الآن على الأصناف التالية: الخط الكوفي، والخط المبسوط، والخط المجوهر وخط الوراقة والدواوين في المغرب، والخط الزمامي، وخط الثلث المغربي.
جماليات المخطوط
من مصر حضر تامر مختار، أستاذ الآثار والفنون الإسلامية والمحاضر بـ"معهد المخطوطات العربية" ليتحدث عن الزخارف وجماليات المخطوط المغربي. وبالنسبة إليه فإنّ المخطوط المغربي في العصر الإسلامي جمع في ظاهره وباطنه بين الرقة والجمال وإبداع الخط وثراء المضمون.
فلقد عني المغاربة بالمخطوطات بمختلف أنواعها عناية كبيرة جعلت منها تحفاً فنية ثمينة، على حدّ قوله، مشيراً إلى فنون المخطوط الإسلامي في المغرب العربي من تذهيب وزخرفة وتصوير وتجليد، مبرزاً نماذج من المخطوطات المغربية المحفوظة بـ"مكتبة قطر الوطنية" والمكتبات العالمية، لإظهار مدى تطور هذا الفن في المغرب.
وعرض خالد السباعي مدير "دار الحديث الكتانية" في فاس للخصائص التي اختصت بها المدرسة المغربية في عالم الكتب، والمزايا التي انفردت بها عن كثير من الأمصار، وما حرص عليه علماء الغرب الإسلامي من تصحيح وضبط الدواوين العلمية في سائر فنون المعرفة.
وفي ورقته بعنوان "من الوراقين إلى الدارسين: تواصل الوراقة المغربية بين الممارسة والتوثيق" عرض أيضاً للأصول العلمية التي نالت عناية خاصّة من علماء الغرب الإسلامي، وعرف بنماذج من الكتب التي لقيت عناية كبرى في الغرب الإسلامي مع كون مصنفيها من أهل المشرق.