الهندية بانو مشتاق تخطف البوكر بشخصيات نسائية مهمشة

26 مايو 2025   |  آخر تحديث: 06:21 (توقيت القدس)
بانو مشتاق أثناء تسلّمها جائزة بوكر الدولية في لندن، 20/ 5/ 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تقدم بانو مشتاق في "مصباح القلب" سرداً لحياة النساء المسلمات في الهند، مسلطة الضوء على القيود وصراعهن للتحرر، مما يعكس فعالية الأدب المستمد من التجربة الجمعية.
- الترجمة الإنجليزية لديبا بهاستي تُعتبر عملاً فنياً، حيث حافظت على الطابع المحلي وأبرزت الثقافة المختلفة، ووصفت بأنها "ترجمة راديكالية" تحتفي بالعبور بين اللغات.
- تتميز القصص بتصوير حياة النساء المهمشات، مستخدمة اللغة العامية كوسيلة مقاومة، وفوزها بجائزة بوكر يعيد الاعتبار للقصة القصيرة ويبرز القضايا الاجتماعية بأسلوب جذاب.

في مجموعتها القصصية المترجمة إلى الإنكليزية بعنوان "مصباح القلب"، الفائزة بجائزة بوكر الدولية منذ أيام، تُقدّم الكاتبة الهندية بانو مشتاق صوراً سردية عن الجماعة وحياة أفرادها، وخاصة عن نسائها المُسلمات، والقيود المفروضة على حيواتهنّ في منطقة هامشية في الهند، وصراعهنّ للتحرّر من هذه القيود. وبفوز المجموعة بجائزة بوكر، يُصبح صوتُ الهامش متناً، والكاتبُ صوتَ الجماعة دون أن يتنازل عن فنّيته، ويكتسب النص الأدبي فرادة على مستويين: مستوى لغة السرد وتقنياته (وهذا يميز مشتاق بصفتها كاتبة بين أقرانها)، ومستوى حياة الجماعة التي عبّرت عنها لتقول لنا إن الأدب يكون أكثر فعالية وعمقاً حين يمتحُ من التجربة الجمعية مادةً يبني من لبناتها مواقف وشخصيات تُلْقي الضوء على السياق الأكبر.

عبور عوالم مختلفة

انتقت مترجمة الكتاب إلى الإنكليزية ديبا بهاستي قصص المجموعة الفائزة من بين خمسين قصة كتبتها مشتاق على مدى ثلاثة عقود، وجاءت الترجمة إلى الإنكليزية عملاً فنياً بحد ذاته، استطاعت المترجمة فيه الحفاظ على الطابع المحلي للنصوص الأصلية دون أن تفقد سلاستها أو قوتها. لم تهدف بهاستي إلى إنتاج "إنكليزية سليمة" حسب القواعد الغربية الصارمة، كما قالت، بل تعمّدت الإبقاء على نبرة ولهجة تُشعر القارئ الأجنبي بأنه يتذوق نكهة ثقافة مختلفة، نابضة بالحياة اليومية وواقعها الاجتماعي. ولقد وصف رئيس لجنة التحكيم،الكاتب ماكس بورتر الترجمة بأنها "ترجمة راديكالية"، و"احتفاء بالعبور بين اللغات" و"نصّ متعدد الطبقات" يبرز فيه الطابع الكانادي (نسبةً للغة الكانادا التي تكتب بها) بوضوح، ويمدّ القارئ بخيوط ثقافية دقيقة دون "تغريب أو تزييف".

ترفع التفاصيل اليومية العادية إلى مستوى أدبي إنساني

تكمن قوة قصص "مصباح القلب" في تصويرها حياة النساء المهمشات في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري الأبوي، مجتمع تتأرجح فيه الشخصيات بين الألم والأمل، وبين الضعف والقوة، بين الخضوع لسلطة الذكور ونزعة التحرر من هذه القيود كلها. إحدى القصص التي تحمل عنوان "معلم اللغة العربية وغوبي مانشوري" تروي بروح ساخرة محاولات شاب العثور على زوجة بعد أن وضع شرطاً هو أن تعرف كيف تتقن طبخ طبقه المفضل، وحين تسقط المرأة في مصيدة الزواج، تكتشف أنها أسيرة جحيم لا فكاك منه. في هذه القصة وغيرها، تلتقط مشتاق المفارقات التي تصنعها الحياة اليومية، وتعالجها بحس سردي دقيق، وعاطفة لا تخلو من فكاهة سوداء، وتعبر عن واقع يتقاطع مع واقع نساء عربيات وغير عربيات كثيرات وليس في منطقتها فحسب.

بانو مشتاق - القسم الثقافي
بانو مشتاق أثناء تسلّمها جائزة بوكر الدولية في لندن، 20/ 5/ 2025 (Getty)

وفي علاقة الكاتبة بمواضيع قصصها، نشير إلى أنها وُلدت في حسان، كارناتاكا، عام 1948، وبدأت رحلتها الأدبية في السبعينيات متحدّية التقاليد التي غالباً ما تسجن النساء داخل أطر محدّدة. ورغم زواجها المبكر والقيود الاجتماعية، واصلت تعليمها وأصبحت محامية وناشطة في حقوق المرأة. صدرت لها ستّ مجموعات قصصية ورواية ومجموعة شعرية. من بين أعمالها السابقة المهمّة، مجموعة "حسينة وقصص أخرى"، التي تضم خمسين قصة تتناول حياة النساء المسلمات والداليت في جنوب الهند، وقد حُوّلت إحدى قصصها إلى فيلم سينمائي نال جوائز رفيعة. 

تلجأ مشتاق في قصصها إلى اللغة العامية شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية. ففي حديث لها مع صحيفة ذا فاينانشال إكسبرس، قالت إن اللغة العامية تتيح للكتّاب التعبير بواقعية عن تعقيدات الحياة اليومية، وتمنح القصص طابعاً أصيلاً. ولعلّ ما جعل مجموعة "مصباح القلب" تتلقى هذا القدر من الثناء النقدي، هو أن أسلوب مشتاق يتميز بالبساطة والعمق العاطفي. فهي ترفع التفاصيل اليومية العادية إلى مستوى أدبي إنساني، يمكن أن يجد صدى عند القارئ في أي مكان في العالم. الشخصيات النسائية في قصصها ليست مجرد ضحايا، بل نساء يخضنَ صراعات وجودية تتعلق بالكرامة والحبّ والانتماء والتمرد الصامت على القهر الاجتماعي. 

مصباح القلب ومصباح الأدب

تتجاوز أهمية مجموعة "مصباح القلب" بُعدها الأدبي لتؤكد أن الترجمة ليست جسراً بين اللغات فحسب، بل بين العوالم الإنسانية المختلفة. وجاء قرار لجنة بوكر منح نصف الجائزة البالغة خمسين ألف جنيه إسترليني للمترجمة ديبا بهاستي كي يقدم اعترافاً بقيمة الترجمة الإبداعية، ويعيد الاعتبار لهذا الجهد الأدبي الذي لطالما يبخسه الناشرون حقه. كما يعيد فوز مجموعة مشتاق بهذه الجائزة العالمية الاعتبار للقصة القصيرة التي لا تحظى عادة بما تحظى به الرواية من أهمية وانتشار، وهذا تأكيد لأهمية هذا الجنس الأدبي الذي ربما سيكتسب حضوراً أكثر قوة في عصرنا الرقمي. 

حسٌّ سردي يمتزج بعاطفة لا تخلو من فكاهة سوداء

ما فعلتْهُ جائزة بوكر الدولية هذه السنة هي أنها ألقت الضوء على الاثنين: على الكاتب والثقافة التي ينتمي إليها. ويسجَّل منْح الجائزة للكاتبة الهندية بانو مشتاق، قبل أيام، للجنة الجائزة التي تمكنت من اختراق المتن نحو الهامش، واللغات المركزية نحو لغة هامشية، والإنسان الأوروبي المثقف، أو البطل بمفهومه الفلسفي والشخصيات القصصية أو الروائية المحورية، إلى الناس العاديين المهمشين في الجماعة التي تعيش في بلد تسوده صراعات دينية وتعصب ومركزية ذكورية طاغية ونزعة تفوق عنصرية. 

يمثل فوز مشتاق بجائزة بوكر لحظة تحول مفصلية في تاريخ الأدب الهندي عامة، وأدب لغة الكانادا خاصة، ذلك أنه يسلط الضوء على التنوع اللغوي والثقافي الغني في شبه القارة الهندية. كما يفتح آفاقاً جديدة أمام الأعمال الإقليمية لتخترق الساحة العالمية. تنفخ مشتاق أيضاً في هذه المجموعة روحاً جديدة في أدب الالتزام، ولا نعني هنا الالتزام بالمعنى الضيق الذي يضحي بفنية الأدب لصالح الأفكار وبالتالي يتحول إلى بوق لها، بل الأدب الملتزم بفنّيته باعتباره أدباً، وبتسليط الضوء على القضايا العامة من خلال تصوير أوضاع بعينها. كما تتميز قصص المجموعة بأسلوب السرد الجذاب، الذي وصفه حكام الجائزة بأنه فكاهي وحي وعاطفي، ويؤثّر في النفس. 

فوز بانو مشتاق بجائزة بوكر الدولية دليل على أن الأدب الأصيل لا يعرف حدوداً جغرافية أو لغوية، وأن الصوت الحقيقي قادر على عبور الحواجز حين يُقدَّم بصدق وأصالة. "مصباح القلب" ليست مجموعة قصصية فقط، بل هي مصباح أدبي صغير أضاء على معاناة النساء العاديات في منطقة من العالم ظلّت لفترة طويلة خارج بؤرة الضوء، وجعل منهن بطلات في أعين القرّاء ووسّع من حدود دهشتنا بعمق التعبير الأدبي عن التجربة البشرية في سياقاتها المتنوعة.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

آداب
التحديثات الحية
المساهمون