النوفيلا وتوقعات السرد

18 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 07:33 (توقيت القدس)
خوان خوسيه ميلاس، في معرض الكتاب في مدريد، 2018 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تُعتبر النوفيلا شكلاً أدبياً مميزاً يعيد تعريف النوع الأدبي، حيث تقدم تجربة قراءة مكثفة تتناسب مع إيقاع الحياة السريع، وتتيح إمكانات بنيوية وجمالية تُعيد تعريف السرد وفق شروط العصر.

- أطلقت دار هاشيت أنطوان (نوفل) سلسلة نوفيلات لكتّاب عرب، مثل "منزل الذكريات" و"كهف الألواح"، تتميز بتنوعها السردي وعمقها الفني، حيث تمتزج الواقعية بالخيال وتستكشف قضايا إنسانية واجتماعية معاصرة.

- رغم قيمتها الأدبية، تواجه النوفيلا تحديات في الجوائز الأدبية لعدم وجود جوائز مخصصة لها، مما يُقصيها مؤسّسياً، لكنها تظل قادرة على استحضار تجارب شخصية وتحويلها إلى مرآة لأسئلة إنسانية كبرى.

لا تتوقف أهمية النوفيلا عند مداها القصير، بل تمتد إلى ما تتيحه من إمكانات بنيوية وجمالية تُعيد التفكير في حدود النوع الأدبي، كما توضّح الباحثة الفرنسية ماري-لور رايان، أن الأعراف النوعية تُفرض بوصفها نظاماً دلالياً من الدرجة الثانية على نمط الدلالة الأساسي، وهو ما يجعل القارئ يتعامل مع النوفيلا لا بوصفها رواية قصيرة، بل نصاً مشروطاً بتوقعات شكلية، يُعاد تأويله من خلالها.

وبينما يرى بعضهم أن القصر يُضعف البناء الدرامي، تردّ رايان ضمنياً على ذلك في دراساتها حول نظريات السرد اليوم، حين تؤكد أن الأشكال السردية المختصرة تتلاءم مع طبيعة القراءة الراهنة، وهي مواصفات تنطبق بدقة على النوفيلا. بالتالي، فإن هذا الشكل لا يتعارض مع متطلبات السرد، بل يُعيد تعريفه وفق شروط العصر.

خمس نوفيلات عربية

في زمن أصبحت فيه القراءة محاصرة بإيقاع الحياة السريع تبرز النوفيلا استجابةً فنية ذكية، تهتمّ بها بعض الدور النشر العربية، ومنها دار هاشيت أنطوان (نوفل) التي أطلقت العام الماضي، سلسلة نوفيلات لكتّاب عرب، منها "منزل الذكريات" للروائي الفلسطيني محمود شقير، و"كهف الألواح" للكاتب المغربي محمد سعيد أحجيوج، و"لا شيء أسود بالكامل" للكاتبة اللبنانية عزة طويل، و"ذئب العائلة" للكاتب اللبناني صهيب أيوب، و"لعنة صبي كرات الطين" للكاتب الفلسطيني مازن معروف. وصفت الدار النوفيلا بأنها "عمل أدبي له ثيمة واحدة تترك مجالاً لتطوير الشخصيات والحبكة بما قلَّ ودلّ، وبسرد مكثّف"، مؤمنة بقدرة هذا النوع على الوصول إلى قارئ العصر دون التنازل عن العمق الفني.

الوصول إلى قارئ العصر دون التنازل عن العمق الفني

تشهد هذه السلسلة تنوعاً لافتاً في المقاربات السردية، إذ يمتزج في "منازل الذكريات" الواقع الفلسطيني بالخيال ضمن أحداثها التي تدور في مدينة القدس المحتلة، كما يستدعى العمل شخصيات من الكتب في استحضار لروايتَي "الجميلات النائمات" لياسوناري كواباتا، و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات" لغابرييل غارسيا ماركيز.

وجاءت نوفيلا "كهف الألواح" بوصفها لعبة سردية تقوم على التكرار والانزياح؛ إذ تتبدل الأسماء والملامح والتفاصيل العائلية، بينما تبقى الأحداث ثابتة كأنها قدر مكتوب سلفاً. عبر هذا البناء الدائري، تتحول الكتابة نفسها إلى استجابة قهرية لنصّ مفترض منقوش في ألواح داخل كهف غامض، في استعارة عميقة عن المصائر الإنسانية التي لا نملك حيالها سوى ملء الفراغات بأسمائنا.

أما نوفيلا "ذئب العائلة"، فتنفتح على مدينة طرابلس التي تنتقل من كونها مجرد فضاء خارجي إلى شريك عضوي في السرد، وتتماهى الشوارع والأحياء مع توترات الشخصيات وصراعاتها، لتصبح الذاكرة الفردية مشبعة بالذاكرة المكانية، بين حياة حسن السبع وعائلته وجيرانه، يتداخل الماضي بالحاضر، وتتكشف طبقات من الفقر والعنف والجريمة، ليولد نص قصير لكنه مشبع بالواقعية القاسية والخيال في آنٍ، وبجرأة سردية لا تتردد في ملامسة ما هو مسكوت عنه.

تتحوّل تجربة شخصية خاصة إلى مرآة لأسئلة إنسانية كبرى 

وتأتي نوفيلا "لعنة صبي كرات الطين" لتدفع بالنوع إلى تخوم الخيال العلمي، مستثمرة بعداً استشرافياً لفهم المأساة الفلسطينية، في زمن مستقبلي يُعاد فيه تسمية الفلسطينيين بالفلاسطة باعتبارها محاولة لمحو هويتهم، ويُرحّلون قسراً جنوباً، تظهر قذيفة بيولوجية تطاردهم جميعاً، لكن صبياً واحداً ينجو بفضل مناعة مكتسبة من أجساد الموتى. من خلال هذا التصوّر الكابوسي، يبتكر النص صورة مجازية عن الصمود الفلسطيني، إذ البقاء يتحول إلى فعل مقاومة بيولوجية وتاريخية. 

أما نوفيلا "لا شيء أسود بالكامل"، فتنسج سرداً إنسانياً حميمياً من خلال بطلة تتأرجح بين تجارب الأمومة والحب والفقد، في نص يلتقط هشاشة الحياة اليومية ويمنحها بعداً تأملياً يضاعف أثرها.

علامات فارقة

ولعلّ من أبرز الأمثلة على النوفيلا الكلاسيكية التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ الأدب، "المسخ" لفرانز كافكا، التي نجح فيها الكاتب في خلق عالم كابوسي كثيف، يبدأ من جملة واحدة تصفع القارئ في وجهه، دون مقدمات. كذلك، شكّلت نوفيلا "الغريب" لألبير كامو مثالاً على كيف يمكن لحيّز سردي مقتضب أن يحتوي فلسفة كاملة للعبث واللامبالاة والوجود. وهذا ما تؤكده النوفيلا الشهيرة "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي، التي تقدّم عملاً أدبياً بالغ القوة والإيحاء، من خلال شخصية الصياد العجوز سانتياغو، الذي يخوض صراعاً ملحمياً مع سمكة مارلن عملاقة بعد 84 يوماً من الفشل في الصيد. 

أما في "قصتي الحقيقية" لخوان خوسيه مياس، فينجح الكاتب الإسباني في تقديم عمل شديد الكثافة النفسية، ينبض بالقلق والارتباك الوجودي، من خلال سرد حميمي لفتى في الرابعة عشرة يمرّ بمرحلة مضطربة من النضج العاطفي والجسدي. 

تتميز هذه النوفيلا بإحكام سردي لافت، إذ يوظف مياس شكلاً أقرب إلى الاعتراف، بل إلى الكتابة النفسية العارية، دون أن ينزلق إلى التقريرية أو الميلودراما. لا شيء في النص زائد، وكل جملة تنطوي على توتر داخلي، يجعل القارئ في حالة تواطؤ حميم مع البطل، وكأنه يستمع إلى سر عميق لا يُقال إلّا مرة واحدة. 

هنا تكمن قوة النوفيلا، في قدرتها على استحضار تجربة شخصية شديدة الخصوصية، وتحويلها إلى مرآة لأسئلة إنسانية كبرى حول الهوية، والرغبة، والخوف من الانكشاف. فالميتافيزيقا في هذا العمل لا تأتي من الأفكار المجردة، بل من تفاصيل الجسد، من نظرات عابرة، ومن صمت متكرر يحمل أكثر مما يقول.

النوفيلا هنا ليست اختصاراً، بل إنّها تكثيفٌ. تشبه القصيدة التي تحمل في كل سطر احتمالاً كبيراً للانفجار الرمزي. في هذا الشكل، تكون الكلمة أغلى، والحذف أصعب، والصمت أبلغ. النوفيلا، بما تمنحه من تجربة قابلة للقراءة في جلسة واحدة، لكنها عصية على الاستنفاد، تمنح القارئ لذة العودة، ومحاولة إعادة التأويل، بحثاً عن المعنى بين السطور.

لكن رغم هذه القيمة الأدبية، تُواجه النوفيلا إشكالية واضحة في فضاء الجوائز الأدبية. فمعظم الجوائز الكبرى، عربياً وعالمياً، لا تتسع لهذا الشكل، وتُصنّف النصوص إما روايات طويلة أو قصصاً قصيرة. لا توجد جائزة مرموقة مخصّصة للنوفيلا بذاتها، ما يُقصيها مؤسّسياً من دائرة التكريم، رغم حضورها الفني الطاغي. قد يعود ذلك إلى خلل في تصوّر النوع الأدبي لدى لجان التحكيم، أو إلى صعوبة تصنيفه.

المساهمون