النخلة والبارود

15 فبراير 2025
سعاد العطّار/ العراق
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- آصف يقود دراجته عبر بساتين النخيل ليلاً، متحديًا الخوف والمخاطر للوصول إلى بيته حيث تنتظره زوجته الحامل بقلق.
- اتفق آصف مع كاظم على استلام بضاعة مهربة، متجنبًا الكلاب والشرطة، لضمان وصول البضاعة إلى وجهتها رغم المخاطر.
- تعرض آصف لإطلاق نار من الشرطي عند القنطرة الأخيرة، مما أدى إلى إصابته، لكنه استمر في السير بصعوبة، تاركًا خلفه خطًا من الدماء. القصة تعكس صراع الإنسان مع الظروف القاسية.

كان هناك خليط من رائحة السَّمك الميّت ورائحة طَلع النَّخيل يملأ المكان طوال الليل. الرائحة منتشرة في ضوء القمر، في دروب بساتين النخيل الضيّقة، وعلى طول طريق آصف - رائحة موت ونماء - حيث كان يقود درّاجته الهوائية في أوقات حضور الحرّاس وغيابهم. فحتى لو رأى أحدهم بأُمّ عينيه أثناء النهار، لعادَ ليلاً وواصل السَّير راكباً درّاجته الهوائية القديمة. وها هو ذا قد جاء... الليلة مُقمِرة وليس هناك خيار سوى أن يأتي ويتحمّل مشاقّ المُخاطَرة، فالليل مُوحِش يُوقع الرهبة في النفس، خاصة عندما تكون هناك أعداد كبيرة من رجال شرطة الحدود.

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، ولم تعد المساحة الفارغة لبستان النخيل كذلك، بل بدَت ملأى بالصَّمت والظلام، وكان آصف يمرّ من خلال كلّ هذا الصمت والظلام، عطشانَ ينضَح عرَقاً، ويسير بجانب سواقٍ مملوءة بالمياه، رأى صورته على سطح الماء وهو يسير بجدٍّ، وبينما تبرز عروق رقبته، يضغط بقدمه على دوّاسة الدرّاجة ويُسارع متّجهاً إلى الأمام.

كم من الوقت يستغرق الوصولُ إلى الواجهة؟ الكثير. الأكتاف لا تزال ممتلئة بالقوّة.

کان يُمسكُ بيدَيه مقود الدرّاجة بإحکام. هناك طريقٌ طويل ليقطعه. ولطالما تكون الدوسات الأخيرة على دوّاسة الدرّاجة مصحوبة بالانهماك وتتطلّب جهداً كبيراً. ما يزال أمامه طريق طويل: "لكنّني سأكون في البيت عند الصباح. سوف أستلقي على سريري وستفرك زوجتي قدمَيّ بيديها الرقيقتين. ستقوم بالضَّرب الخفيف على فخذي بكفّها وتُدلّك كتفي لتُخفّف عنّي التعب والإرهاق الذي يُصيبني إثر السير أثناء الليل.

دائماً ما يكون أصعب جسر، هو الجسر الأول

وضع آصف يده حول رقبته التي كانت لزجة بسبب العرق الناتج عن تعرّضه لـ"هوا الشرجي" أو الرياح الجنوبية الشرقية المحمّلة بالرطوبة. لقد كان الأخدود العلوي من تفاحته مليئاً بالعرق الأسود، لكنه لم يلمسه بيده، أو ربّما مسحه بيده لكن العرَق ما زال مُلتصقاً. تذكّر برودة مياه النهر في الصباح، إلّا أنه لم يحاول تنظيف جسمه من العرق بأكمله.

كسَر عواء كلب من بعيد صمتَ العُزلة، كما لو أنه يئنُّ، كصوت سكرات شخص ما في اللحظات الأخيرة من الحياة.

وكانت قطرات الرطوبة تتساقط من أعلى النخيل.

"لا تقلقي يا امرأة. لن يمسني سوء، ولا شيء سيحدث لي، إنها ليست ليلتي الأولى".

كان متشبّثاً بالدرّاجة. عبَر بها وهو يقودُها ببطء وحذر على جذع طويل يربط بين ضفّتين. أدار رأسه ونظر إلى القنطرة الضيّقة. كان عرضها قدماً واحداً. ارتسمت ابتسامة على شفتيه، وأطلق أنفاسه المحبوسة في صدره.

لقد عبر القنطرة الأولى. وبقي أمامه بضع قناطر، لكن هذه القنطرة كانت الأصعب بينها جميعاً. دائماً ما يكون أصعب جسر، هو الجسر الأول.

"سأعبر الأُخريات بسهولة. يكفي ألّا أخاف وأعتبر نفسي منتصراً على العدو. الليل لي وأنا رجل العتمة. لقد ولدتُ في الظلام وسأجتازه بعيون مُشرقة، بل ما أسهل عبور الجسور الأُخرى".

سحب الكلب جسمَه إلى الأمام وأخذ ينبح.

"الليلة قمراء أيها الزائر، وأنت تعرف جيّداً كيف يتصرّف عناصر الشرطة إنهم ينتشرون في الليالي القمراء كي تكون لديهم الجُرأة".

شبكت المرأة يديها ودفعتهما تحت رأسها. عيونها لم تر النّوم لحظةً واحدة ولم يُطبق لها جفنٌ في ليالٍ عديدة، ففي كلّ ليلة تظلّ مؤرّقة إلى الفجر ما دام آصف غائباً والدرّاجة القديمة غير مسندة إلى الجدار.

كان القلق في غياب آصف قد خيّم على السطح المُضاء بنور القمر، ويتقلّبُ في شرايين المرأة. قلق الحياة والموت والخوف من سماع صوت الرصاص في عتمة الليل، خشية أن تُهشّم الرصاصة صدرَ آصف، وتقطّع قلب المرأة في السرير إرباً إرباً.

حدّقت المرأة في القمر وأخذت تدعو الله من أعماق قلبها. تدعو من أجل آصف والجنين الذي كان يتحرّك، وكانت تشعر بذراعيه ورجليه الصغيرتين في رحمها، إذ يتلوّى بشغب في بطنها ويلكمها على خاصرتها.

"دائماً ما تكون الليالي محفوفة بالمخاطر يا امرأة. مع أو بدون ضوء القمر".

يواصل قيادة الدرّاجة بصعوبة ويضغط على الدوّاسة بشقِّ الأنفُس. كما لو أنّ كيس الخَيْش قد ألقى بنفسه على أكتاف الرجل وبدأ يغرسه في أعماق الأرض كالمسمار. رفع طرف كوفيّته الرمادية وعدّلها فوق رأسه، وواصل تحمُّله لثقل كلّ ذلك الحمل. كانت الأعمدة القويّة لأشجار النخيل تمرُّ بجانبه بصمت، تلك التي تُعدّ من معارفه القدامى. أشجار النخيل التي لطالما مرّت بجانبه وهربت في ظلام الليل، وكم تمنّى أن يكون لديه عدد منها. أن يمتلك بستاناً، بستاناً مليئاً بالنخيل، فيجلس تحت ظلّها ويشاهدها كيف تؤتي ثمارها. يشدّ حزامه حول ظهره ويربّي النخيل مع تقدّمه في السنّ - لكن الآن. الهروب، النخيل. دائماً ما يضيع الهروب وجذع النخلة الكبير في نظراته - في نهاية هذا الدرب الضيّق، توجد قنطرة أُخرى، وعلى الجانب الآخر يوجد طريق مليء بالحصى الصغيرة يتطلّب السَّير فيه القليل من الهمّة والقوّة.

"كم الحمل ثقيل ويتطلّب جهداً كبيراً هذه الليلة، تكاد أكتافه تهزل".

"دع الأمر لليلة القادمة".

"لا يُمكنني فعل ذلك".

كان الطريق على بُعد خطوة واحدة فقط من النهر ويمرّ موازياً له. أدار الرجل رأسه إلى الخلف ونظر. لم يكن هناك شيء واضح. كان المدّ عالياً جدّاً وصامتاً في الوقت نفسه. الذي ألقت فيه الضفادع بأجسادها الناعمة على الوحل عند الخور وراحت تكسر حاجز الصمت مرّة كلّ بضع لحظات. لقد اعتاد آصف سماع نقيقها في الليل. اعتاد سماع كلّ الأصوات في منتصف الليل، فإذا ما سمع صوتاً غير مألوف، فسيقوم عندئذ بالتركيز عليه وسيبحث من فوره عن مصدره. كان غارقاً في التفكير في القنطرة الأخيرة.

 لا تدري لماذا دخل الحزن قلبها الليلة ولم يفارقها ولو لحظةً

لن يُسمع أي صوت غير مألوف خلف تلك القنطرة، ولن يستطيع أيّ شرطي أن يصل إلى أيّ أحد. أسبوع واحد يكفي لبيع البضاعة المهرّبة. ثم بعد ذلك، ليلة أُخرى، ومرّة أُخرى. ربّما في ذلك الحين، ستكون الأوضاع قد هدأت قليلاً. 

"الله معك يا زائر. انتبه إلى نفسك جيّداً والزم الحذر".

"عليكِ أن تخلدي إلى النوم. يجب أن يستريح الطفل".

في صباح ذلك اليوم، كان المقهى فارغاً تقريباً إلّا من عدد قليل من الأشخاص ظلّوا جالسين على المقاعد يدخّنون النرجيلة. وآصف كان دائماً ما يحدّد موعده في المقهى الذي يقع على جانب الطريق. واضعاً مرفقيه على الطاولة، وذقنه في راحة يده فيما ماء النرجيلة يدور في جرّة المياه وكأنه كائن حي يقفز نحو الأعلى وينزل.

وكان كاظم أيضاً قد ألقى بجسمه الكبير على المقعد البنّي القديم والمهترئ، وصلع رأسه مُخبّأ تحت كوفيته الحمراء. 

فصلَ خرطوم النرجيلة عن شفتيه ورفع كتفيه!

"اسمع يا آصف، إنني سأذهب مع المركب غداً. صدّقني هناك الكثير من الزبائن. عبد الزهراء جاءني لتوّه، لكنني امتنعتُ عن بيع البضاعة إليه لأن لي تعاملاً معك. فقلتُ لنفسي، إذا أخذتها أنت، أفضل من أن أبيعها للغرباء. والآن إذا كنت تستطيع أن تأخذها الليلة بالسِّعر نفسه، فإني سأنتظرك. وإذا لم يكن في مقدورك، فأخبرني كي أسلمها لغيرك. غداً لن أكون هنا، ولا أحتفظ بأي شيء في المنزل. أنت تعرف جيداً كيف هي الأوضاع في هذه الأيام".

لم يكن لدى آصف خيار آخر. بالسِّعر نفسه الذي كان أغلى قليلاً من المعتاد، نفض رماد السيجارة واتّفق مع كاظم. ينبغي ألّا يسيء التعامل مع كاظم، لأن الآخرين لا يوفّرون له البضاعة بسهولة. مدّ آصف يده في جيبه.

"تفضل، هذا نصف المبلغ. سآتي الليلة".

كان الشرطيّ قصير القامة، بطنه منتفخ. وخطّ رفيع أشقر من الشَّعر يعلو شفتيه. كان يدير بصره في الظلام في كلّ الاتجاهات، يتحرّك معه بؤبؤا عينيه الكبيرتين أعلى أسفل. وقد خطف التعب والارتفاع في درجة الحرارة أنفاسه وجعل يلهث. لم يستطع تحمُّل الطقس الرطب "الشرجي" ولم يعتد على حرارته.

وقد أسند الدرّاجة على جذع النخلة، وأنزل البندقية من كتفه، مُمسكاً بها من بين ذراعيه وأثر حزام البندقية يؤلمه، كما لو كان أثراً لضربة سوط على الكتف. نظر من حوله مرّة أُخرى. رائحة النخيل تهبُ الإنسان الروح من جديد. فجلس بجانب النهر ووضع قبّعته على اليمين. كنفَ يديه وغمسهما في مياه النهر. حلّت البرودة محلّ العرق على وجهه، فاغترف من الماء غرفة أُخرى وغسل وجهه من دون أن يمسحه. والآن، لا شيء غير الماء يغطّي نظراته. 

"سيّدي النقيب، لقد كنّا على أُهبة الاستعداد ونحن نحرس الحدود بشكل مستمرّ منذ عدة أسابيع".

أشعَل الضابط سيجارة وكان جالساً على كرسيّ جلدي دوَّار.

"ألم يكُن من الأفضل اختيار مهنة أُخرى؟ مَن الذي أجبركم على امتهان هذا العمل؟ هل كنتم مُجبرين على ذلك؟".

صبَّ الشرطي الماءَ خلف رقبته أيضاً. أخرَج منديلاً أبيض، مسح به وجهه. وانزلقت البندقية بين ذراعيه.

"ولكن يا سيّدي النقيب...". 

أجفَل صوت نُباح الكلب الشرطي وقفز من مكانه ولم يعد يفكّر في أي شيء.

أعاد البندقيّة إلى كتفه وارتدى قُبّعته. 

استولى عليه الخوف. كان يعلم أنه إذا تعرّض لهجوم ما، فليس هناك من يخاف من البندقية، إذ يكون الهجوم دائماً مفاجئاً وغير متوقَّع، ويُمكن أن يحدث في أيّ لحظة.

نظر إلى الخرائب التي كانت تقع على الضفّة الأُخرى. لا شيء سوى الظلام والجدران الطينية. شعَر أنه لا شكّ من وجود شيء يختبئ الآن عن الأنظار. لقد جعل صوت نُباح الكلب المتواصل الشرطيّ فضولياً. توقّف هنيهة ليتغلّب على الخوف في قلبه.

نظرة عدوانية، ثم تلاها تحرّك إصبع للضغط على الزناد

في حين كان آصف ينزل من الدرّاجة، كان حذاؤه البالي يحطّ على الأرض بسلاسة بالغة، ليخطو بخفّة ونعومة كما لو أنْ لا أحدَ غيره على الأرض وهو يُمسك المقود بيده بإحكام، وكلّما اهتزّت العجلة الأمامية بسبب ثقل الحمل، هدّأها بصعوبة وحذر.

كان الطريق ضيّقاً، والطريق الضيّق طويل.

"ماذا تريد أن يكون طفلنا يا زائر؟".

بينما كان آصف يحدّق في أشد النجوم لمعاناً في السماء، وضع يدَه على بطن امرأته وابتسم.

"أنتِ تعلمين، أُريده أن يكون ولداً".

كانت المرأة قد لفّت جسمها بأكمله في ملاءة بيضاء. كما لو أنّها جثّة شخص ميت تُرك تحت ضوء القمر. إنها لا تتقلّب في السرير، ولكن تدور آلاف الأفكار المختلفة في رأسها. إلى متى يجب أن يستمرّ هذا الأرق والخوف؟ أليس من الأفضل لآصف أن يجدَ لنفسه عملاً أفضل؟ لماذا سمحت لزوجها أن يهيم في بساتين النخيل هذه الليلة؟ كان يجب عليها أن تمنعه. ستمنعه من الآن فصاعداً. يجب أن تقف في وجهه بثبات وحزم، وتمنعه من الذهاب مرّة أُخرى.

"ماذا ستسمّي الطفل يا آصف؟".

"أسمّيه علي. إنه اسم أبي".

ركض الكلب نحو آصف وألقى بنفسه أمامه. كان ينبح بصوت عالٍ، حاول جاهداً إسكات الكلب لكن من دون جدوى. فأمسك بمقود الدرّاجة بيد واحدة وانحنى ليلتقطَ حجراً بالأُخرى ثم رماه، فتراجع الكلب قليلاً ثم عاود مهاجمته مرّة أُخرى، كان قلب الشرطي ينبض بسرعة وهو يتقدّم نحو آصف. كشف آصف اللثام عن وجهه وحاول الحفاظ على رباطة جأشه. ولكن الدَّم كان يغلي في عروقه والحرارة تسري تحت جلده المتعرّق، ورأسه يلتهب من شدّة الغضب.

"ابتعد أيها الحيوان الغبي".

أدار آصف رأسه وشحذ عينيه الصغيرتين المدوّرتين. الكلب يؤُذيه ولم يتركه يذهب. كم سيكون الوضع جيّداً لولا هذه الكلاب والشرطة. ليست المشكلة في الطريق نفسه، بل إنها هنا، في هذه العقبات الغريبة والمألوفة. فرجال الشرطة من الغرباء بينما الكلاب مألوفة!. الكلب الذي رآه دائماً. ينام ساعات النهار تحت ظلّ النخلة وكأنه ميت ولا يستطيع التنفس... فما الذي يفعله الآن!

أخذ آصف الدرّاجة معه إلى الجزء الخلفي من الخرائب، وسمع صوت جنزير درّاجة الشرطي الهوائية. لمَع الشعور بالخطر في بياض عينيه.

"إذا لم تأتِ قبل الساعة الثانية فجراً، فسأُعطي كيس الخَيْش المليء بالبضاعة لعبد الزهراء. وأُعيد لك مبلغ المال". 

لم يبق وقت طويل حتى مطلع الفجر وكان الهواء يزداد رطوبة. يودّ المرء لو يلقي بنفسه في برودة مياه النهر، حيث يهب نسيم يصطدم بتموّجات مياهه، ويهوى الانغماس في برودة المياه حتى العنق وينظر إلى المشاحيف وهي ترقص على الأمواج بالقرب من الشاطئ.

كانت المرأة مستلقية على سطح البيت وتبكي. لا تدري لماذا دخل الحزن قلبها الليلة ولم يفارقها الخوف ولو لحظةً واحدة. إذا عاد الليل وحان الوقت لذهاب آصف، فإنها سترمي بنفسها عند قدمي زوجها وتتوسل إليه ألّا يذهب. تبكي وتلقي بنفسها على الأبواب والجدران. لكن الليل ذهب، واتخذ آصف طريقه. سلك الطريق الضيق الذي يمر من خلال بساتين النخيل. مسحت المرأة دموعها التي امتلأت بها عيناها بطرف وشاحها.

"لا رضي الله عن هذه الكلاب ولا عن الشرطة".

جلس الرجل خلف الخرائب. ومن شدّة التعب الذي كان يشعر به، أسند رأسه إلى الحائط.

سأُدخّن سيجارتي غداً تحت ظلّ جدار بيتي. عندما تحضر لي زوجتي الشاي الساخن وأتخلص من التعب بشربه. عندئذ سيطيب لي تدخين السجائر.

أسند الشرطي درّاجته إلى جذع النخلة، وخطّت فوهة بندقيته من حوله دائرة على الأرض.

"ماذا يُمكنني أن أفعل يا امرأة. هل تريدين أن ألتزم الجلوس في البيت حتى يعود رجال الشرطة إلى بيوتهم؟ لقد قرّروا البقاء هنا ولن يذهبوا".

رفع رأسه وهو في الخرائب وأخذ ينظر حوله. شمّ رائحة زهور الدفلى المُرّة. أخرَج نفسه بالكامل من الخرائب، ثم بدأت عجلات الدرّاجة بالتحرّك على الأرض الرطبة مرّة أُخرى. لقد كان وزن آصف مُنصبّاً على سرج الدرّاجة. حتى أخذ يتناهى إلى سمعه صوت جنزير درّاجة الشرطي. اختبأ الشرطي خلف جذع النخلة فوراً، وكان ظلّ قبّعته قد وقع على الأرض. وهو يختلس النظر متلفّتاً من خلف الجذع بين الحين والآخر. وقد تناثر الضوء على آصف من بين سعف النخيل. 

رفعت المرأة نظرها نحو السماء "أدرِكْنا یا صاحب الزمان".

كانت الحصى تفرّ من تحت العجلات. والآن، لقد رأى الشرطي ظلّ جسد الرجل النحيل وهو يقود الدرّاجة بصعوبة.

"قف مكانك".

"لا أستطيع. لا يمكن أن أترك كيساً مليئاً بعلب الشاي هنا وأذهب".

أخذ ضوء القمر يتراجع تدريجاً. لقد كان آصف خائفاً، والشرطي اعتراه الخوف أيضاً. لقد خيّم الخوف على أرجاء بستان النخيل. الليل يعيش في أجواء من الخوف، وآصف لا يزال يواصل السير وسط الخوف من الموت، لكنه كان في الوقت نفسه يتقدم بحزم وجسمه ينضح عرقاً، وهو يحمل الكيس وينوء به كما لو أنه وزر من الأوزار.

"حسناً، وإن كانت لديهم أسلحة، فهل هذا يعني أن نتضوّر جوعاً؟".

انحنى الشرطي وجثا على ركبتيه. حدّق آصف بعينيه الصغيرتين في نهاية الطريق الضيق.

"غداً سأكون في البيت. وفي الظهيرة، سأجلس على جذع النخلة، أرفع دشداشتي عن ساقيّ وأغمس قدمي في الماء البارد. وفي هواء يوم غد الحار، ستجلب المياه حبات النبق الصفراء واللذيذة من شمال النهر، وسألتقط تلك الحبات التي تنبعث منها رائحة طيبة في فمي من أمواج النهر".

كان الشرطي يرصد جسم آصف بالكامل عبر نظراته، واشتدّ دوران العجلات لحظة بلحظة. 

أخذ صوت الشرطي يصدح في كلّ مكان، وقد غرس الخوف في قلوب بعض الناس.

"توقّفْ".

"لا يُمكن أن أتوقّف... من الأفضل ألّا تجعل نفسك حزينة عبثاً".

نظرت المرأة إلى السماء ورأت النجوم تفقد بريقها وتتلاشى الواحدة تلو الأُخرى وتختفي. أدارت عينيها وأخذت تبحث عن النجم الكبير الذي كانت تُشاهده كلّ ليلة، لكنّها لم تجده. كان هناك دفء كئيب يحتلّ قلبها. تحسّست بطنها بيدها. لقد كان الطفل هادئاً.

كانت عروق فخذ آصف بارزة من خلف البنطال. أنابيب الدَّم التي تجري فيها الحياة، وتدفُّق الدم الحارّ يمنعه من التوقّف. كيف يمكنه التوقف والاستسلام مع وجود كل هذه الحرارة؟  - كلّا - لا يجوز البقاء. سيجلب له المذلّة والعار. لا شيء يكسر ظهر الرجل مثل الاستسلام.

أصبحت فوهة البندقية في خطّ أفقي وتحمل الأخمص وزن الذقن.

تساقطت بضع قطرات من العرق على جانبَي جبين الشرطي. وهناك رجل تحيطه نظرة وهو يواصل قيادة الدرّاجة. نظرة غريبة وغير مألوفة. نظرة عدوانية، ثم تلاها تحرّك إصبع للضغط على الزناد.

فرّت العصافير من أعالى النخيل، لحظة سماع دوي إطلاق الرصاص، ولكن آصف لم يضغط على مقبض مكابح الدرّاجة. حلّقت العصافير نحو الجهة التي غاب عنها ضوء القمر، وامتلأ الفضاء بصوت رفيف أجنحتها.

وبينما كانت المرأة ترفع الملاءة البيضاء حتى عنقها، حملتها بيدها وفجأة جلست على الأرض. 

"دخيلك يا قمر بني هاشم".

في الخيام التي أُقيمت باستخدام الملاءات، تحرّك أناس واشرأبّوا. أخذ الشرطي يحدّق في قامة الرجل الذي كان واضعاً يدَه على فخذه ويسير كالأعرج نحو الجهة المضاءة بنور القمر، ونزيف الدم ضاعف حرارة جسمه كثيراً. لم يبق شيء حتى طلوع الفجر، وحتى بلوغ القنطرة الأخيرة أيضاً.

هرعت المرأة مذهولة ومبعثرة الشعر، ونزلت على الدرج مُسرعة.

كانت الدرّاجة مقلوبة والعجلات تدور بسرعة في الهواء من دون أن تقلّ أي أحد، وكان الماء يتسرّب إلى داخل الكيس ويُهدر الشاي الجافّ.

كان آصف يمشي متعرّجاً، ويُرسَم خلفه خطّ أحمر على الأرض الرطبة، وتترسّب رائحة البارود إلى قلب النخلة.
 

ترجمة عن الفارسية: محمد حمادي



بطاقة

قاضي ربيحاوي، كاتبٌ وقاصّ أهوازي من مواليد عام 1957، نشر أعماله باللغة الفارسية في التسعينيات من القرن الماضي، إذ صوّر وشرح الأجواء الريفية والحضرية في جنوب غرب إيران. له في القصة: "شهر مرداد عند أفران الجنوب"، و"عندما شوهد دخان الحرب في سماء القرية"، و"النخل والبارود"، و"حادثة في الورشة المركزية"، و"مذكّرات جندي"، و"من هذا المكان"، و"أُغنية حبّ"؛ ورواية "الضفيرة".

نصوص
التحديثات الحية