"الموت في الرمل" لـ ليوناردو بادورا.. النجاة لمن استطاع في كوبا
استمع إلى الملخص
- تجمع الرواية بين التشويق البوليسي والدراما الاجتماعية، وتبرز دور الأدب في الحفاظ على الذاكرة الجماعية ومواجهة التلاعب بالتاريخ، مع الإشارة إلى تحديات الأدباء في ظل الرقابة الصارمة.
- تحمل الرواية رسالة أمل وعناد إنساني، مؤكدة على روح الكوبيين القوية في مواجهة الانهيار، وتعتبر مرثية لجيل كامل وإدانة لانكسار الحلم الثوري.
"إنها أكثر رواياتي حزناً، فهي أشبه بسيرة انهيار. وليس ذلك لانهيار جيل كامل عاش على وعود الثورة الكوبية، بل لانهيار المنظومة الاجتماعية التي بُنيت على شعارات التضامن والمساواة، فإذا بها تنتهي إلى واقع يومي طاحن تسوده الفوارق الصارخة بين فقر مدقع وثروات مفاجئة". بهذه الكلمات يصف الروائي الكوبي ليوناردو بادورا عمله الأخير "الموت في الرمل" (دار توسكيتس، مدريد، 2025)، والذي يسرد فيه حياة جيله في كوبا المعاصرة، حيث تسود مقولتا "النجاة لمن استطاع" و"أنقذ نفسك بنفسك"، في مفارقة صادمة لنظام ادّعى منذ بداياته أنه قائم على خدمة الخير العام.
تدور أحداث الرواية حول شخصية رودولفو، العسكري المتقاعد الذي عاش حياته مثقلاً بجرحين: تجربة الحرب في أنغولا، وجريمة قتل والده على يد أخيه جيني الملقّب بـ"الحصان المجنون".
مع اقتراب الإفراج عن جيني، المصاب بمرض عضال والذي ليس لديه مأوى سوى البيت العائلي، تعود أشباح الماضي لتطارد الجميع. وهكذا، على مدى أسبوع واحد تقريباً، تتصاعد التوترات، ويتسارع السرد، وتتكشّف أسرار قديمة، وتعود تفاصيل الجريمة الدموية التي مزّقت الأسرة. في خضم هذا الجو الخانق، يجد رودولفو عزاءً مؤقتاً في استعادة قربٍ قديم من نورة، زوجة أخيه السابقة وحبّه الأول، بينما تشكّل زيارة ابنته وتدخّل شاب صاعد في هافانا المتهالكة الخيط الأخير للأمل.
بهذا البناء الروائي، يوفّق بادورا بين التشويق البوليسي والرواية الاجتماعية، ليحوّل مأساة أسرة إلى مرآة لخمسين عاماً من التاريخ الكوبي، بكل ما فيها من أحلام محبَطة وانهيارات وتحولات اجتماعية وثقافية وسياسية.
جيل يعيش الخيبة
يسرد بادورا "سجل لانهيار" جيل بأكمله، جيل عمل وضحّى وعاش تحت القيود، ليكتشف بعد سنوات أنه أصبح أفقر من أي وقت مضى. فمن معاشات التقاعد الهزيلة، إلى أسعار المواد الغذائية الباهظة، إلى نقص الدواء وتكرار انقطاع الكهرباء، يرسم الكاتب صورة قاتمة عن حاضر كوبا، حيث تتفشى الفوارق الاجتماعية والفساد والعنف، ويصبح الاعتماد على تحويلات الأقارب في الخارج حلاً شبه وحيد للبقاء.
غير أن "الموت في الرمل" ليست توصيفاً اجتماعياً بالمعنى الحرفي للكلمة، فهي تنهض بوصفها شهادة ثقافية وسياسية. إذ يؤكد بادورا أن الكاتب الكوبي لا يستطيع أن ينأى بنفسه عن الواقع، فالواقع – كما يقول – "لا يطرق الباب في كوبا، بل يقتحم البيت". لذلك يتعامل مع الأدب كـ"خزان للذاكرة الجماعية"، يحافظ على الوعي في مواجهة محاولات التلاعب بالتاريخ وفرض النسيان.
رقابة وصوت مقاوم
تشير الرواية أيضاً إلى التضييق الذي عانى منه الأدباء والمثقفون في السبعينيات، حين فُرضت معايير صارمة لما يحق أن يُمثّل "الثقافة الوطنية". ومع بداية التسعينيات، ومع الأزمة الاقتصادية الكبرى، تراجع هذا القفص الحديدي، فتمكّن بادورا من شق طريقه في الخارج عبر دور نشر إسبانية، حيث نشر معظم أعماله بعيداً عن رقابة الداخل. وحتى حين لا تتوفر كتبه في كوبا، كان القرّاء يجدون طريقهم إليها عبر نسخ رقمية مقرصنة، كما حدث مع "الموت في الرمل" التي لم يكد يمر يومان على صدورها حتى ظهرت نسخة مقرصنة تنتشر بين القراء في الجزيرة.
دراما أسرة… ومرآة أمة
صحيح أنَّ رواية "الموت في الرمل" تسرد مأساة عائلية، لكنها في حقيقة الأمر إنها مرثية جيلٍ كامل، وإدانة ضمنية لانكسار الحلم الثوري أمام واقع اقتصادي واجتماعي متردٍّ. ورغم حزنها الطاغي، فإن الرواية تنقل أيضاً عناداً إنسانياً لافتاً، إذ يصر بادورا على أنّ في الكوبيين "روحاً لا تُقهر"، قادرة على مواجهة الانهيار بذاكرة صلبة وبنزعة لا تخلو من الأمل.