استمع إلى الملخص
- المشاركة كعضو في لجنة التحكيم تطلبت التوفيق بين الالتزامات الشخصية والمهنية، وتقييم المهمة بميزان أمانة الكلمة والضمير، مما جعلها تجربة مختلفة عن التجارب السابقة.
- تجربة البرنامج كانت تعليمية ومليئة بالتحديات، ومع انتهاء الموسم الأول في 2023، هناك تطلع للموسم الثاني في 2024 لتعزيز مكانة الشعر في العالم العربي.
أحياناً نحيا بحكمة الأقدار مثلما نحيا بطيشها، وقد لا يكون لنا فضلٌ فيها ولا ذنب إلّا بالقدر الذي يكون لفراشة شغفها اللهب للوقوع في براثن شمعةٍ ناحلة تُضمر لها حبّاً وحشياً، بينما في اللحظة نفسها تتظاهر بأنّ كلّ مهمّتها في الحياة هي صدُّ الظلام وخلق مناخٍ رومانسي لحمقى العشق أو طلّاب الحرية.
هذا ما خطر في بالي وأنا أتلقّى في مقرّي المؤقّت بمدينة نيويورك المكالمة الأُولى من الشاعر سلطان الظيط، على غير لقاء مُسبق، يعرض عليَّ فيها فكرة برنامج "المعلّقة 45"، ويخبرني بترشيحي لأكون "حَكماً" ضمن ستّة شعراء يحكّمون هذه المسابقة الشعرية التلفزيونية الأُولى من نوعها، عبر قناة "الثقافية" السعودية وقناة "إم بي سي".
كان الظيط يُحدّثني بصفته منسّقاً ومديراً للجنة التحكيم في البرنامج، وقد أصغيتُ لأطروحته وبادلني الإصغاء لما طرحته من أسئلة قد تُساعدني على تصوّر طبيعة البرنامج، بما يُعينني على تخيّل دوري الشعري فيه.
كانت فكرة البرنامج بحدّ ذاتها جديرة وجديدة ووهاجة لأيّ عاشق للشعر. فأن يحضر الشعر الفصيح والشعبي على أرضيّة شعرية واحدة، فهذا حلمٌ، وأن تحضر جميع أطياف الشعر الفصيح؛ من القصيدة العمودية وشعر التفعيلة وشعر قصيدة النثر بعدل غير مسبوق لا يخضع لتفضيل شكل شعري على آخر على المنبر نفسه، فهذا خيال، وأن تحتكم المسابقة لمعيار الشعر الخالص وليس لأيّ معيار اجتماعي؛ كالنوع الاجتماعي أو المنطقة أو الجيل فهذا تحقيق المحال.
تحتكم المسابقة لمعيار الشعر الخالص وليس للمعايير الشكلية
ورغم اقتناعي بفكرة برنامج "المعلّقة 45" في ذاتها وإعجابي بها ختاما لائقا لعام "الشعر العربي" الذي أعلنته وزارة الثقافة السعودية في 2023، فإنّني طلبتُ مهلة للتفكير في أمر مشاركتي بوصفي عضوا في لجنة تحكيم هذه المسابقة الشعرية وذلك لسببين.
السبب الثاني هو التأكّد من الإمكانية اللوجستية لترك ارتباطاتي بنيويورك ووجودي على أرض الرياض في أثناء القيام بهذا العمل. أمّا السبب الأوّل فهو إعطاء نفسي مساحة من الوقت لأقوم بوزن هذا المهمّة الشعرية بميزان أمانة الكلمة والتكليف المسؤول وبميزان الضمير والجمال معاً، في ضوء طبيعة البرنامج أمام شروط الإعلام القاسية، وفي ضوء تجربتي الذاتية ومشواري الطويل على طريق حرير الشعر وشوكه.
لقد حضر عبر برنامج "المعلّقة 45" في موسمه الأوّل الشعرُ بجناحيه العريضين على أرض الرياض، من خلال منصّة الشعر الشعبي والشعر الفصيح بأنواعه، في تجربة غير مسبوقة في الخليج والوطن العربي ككلّ. فلم تسبق برنامج "المعلقة 45" أية برامج شعر تسابقية تجمع بين الشعر الفصيح والشعبي من قبل.
كما حضر الشعر الفصيح بأنواعه وأطيافه من قصيدة عمودية وشعر تفعيلة وقصيدة نثر في سابقة هي الأولى من نوعها. وقد سجّل البرنامج اعترافاً شجاعاً بقصيدة النثر وبشرعيّتها الشعرية بما لم تحظ به خلال تاريخها الممتدّ لخمسين عاماً، والذي كان مشحوناً بالتشكيك وبتحدّي شعراءها. وأخيراً شكّل البرنامج، بالنسبة إليّ، ومن موقعي التكليفي والتشريفي فيه مُحكّمةً ممثِّلةً لقصيدة النثر، ضمن الزملاء الشعراء أعضاء لجنة تحكيم الشعر الشعبي والفصيح، تجربةً حياتيّة مغايرة عن تجارب عملي السابقة بالجامعة وفي الفضاء الثقافي والأمم المتحدة وتجاربي التحكيمية الأُخرى. وقد وجدتُ في عملي بـ"المعلّقة 45" قلق وأخيلة العمل الشعري، ومسؤولية ونقدية العمل الأكاديمي، كما وجدتُ فيها أفق وسِعة العمل الدولي.
وبصدق كانت تجربتي ببرنامج "المعلّقة 45" من التجارب التعليمية الشاهقة، بما تتحلّى به مثل هذه التجارب من قسوة مُرهفة وجمال جبّار. وكان خوض التجربة امتحاناً شخصيا لي بالمعنى الوجداني والفكري، كما كانت مغامرة بالمعنى الشعري ومخاطرة بالمعنى السوسيولوجي، وتفاعلاً متسامياً بالمعنى الإنساني، وشرفاً بالمعنى الوطني.
وفيما أكتبُ عن تجربة برنامج مسابقة "المعلّقة 45" الشعرية في موسمها الأوّل 2023، نتطلّع إلى الموسم الثاني 2024 ليدخل الشعر كلّ بيت عربي مُجدِّداً وموطّداً لمجد الشعر - ديوان العرب - بالمعنى التاريخي والمُعاصر.
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية