المعطف الذي تسقط منه الأشياء

المعطف الذي تسقط منه الأشياء

10 يونيو 2021
عمل لـ باية محي الدين (1966، غواش على ورق، 100 × 150 سم)
+ الخط -

كلّما مشى سقطت الأشياء من جيوبه. تارةً من الجيب الأيسر وأُخرى من الأيمن. وكلّما سقط شيءٌ ما كان يتوقّف برهةً للتحقُّق من جيوبه، فيشرع في البحث عن الفتوق التي سقطت منها تلك الأشياء، لكنّ الغريب أنّه لا يعثر على فتقٍ واحد. ثم إنّ تلك المسطرة وذلك القلم وتلك القِدر النحاسية وتلك الحصى لم تكن بأيّ حال من الأحوال في جيوب معطفه الطويل. حقّاًǃ إنّه لا يفقه شيئاً. لكن، ما باليد حيلة، فالفتق غير موجود وسَيْل السقوط مستمرّ.

ثم مشى مسافة خمسين متراً، وفجأةً سقط بيانو كبير ذو سطح أسود لامع، فكاد يتعثّر به. لحسن الحظ أنه تمالَكَ خطوته قبل أن يصطدم بالبيانو العجيب. كيف يمكن لمعطفه الخريفي أن يخفي آلة موسيقية بهذا الحجم في طيّاته؟ كان ذلك عَجَباً عُجاباً لم يجد له تفسيراً. لحسن حظّه أيضاً أنَّ الناس القلائل من حوله لم ينتبهوا للأمر، فأطلق رجليه للريح بعد سقوط البيانو خشية أن يتّهموه بسرقته. وعندما وصل إلى مكانٍ بعيد، حيث يوجد بناء قديم ومهجور، احتمى بأحد جدرانه وجلس أرضاً.

نزع المعطف الرمادي وفتّشه في كلّ رقعة منه، من الداخل ومن الخارج، باحثاً عن تلك الفتوق ذات الأفواه الواسعة التي تسلّلت منها كلّ تلك الأشياء. لكنّ قماش المعطف رغم قِدمه كان سليماً وليس به شقّ واحد. قال لنفسه: "ربما هناك فتق خفيّ لا أراه ومنه سقطت المسطرة والقلم والقِدر النحاسية والبيانو. فلا تفسير غير ذلك". ولكنْ، ماذا سيفعل لو عاد إلى شوارع المدينة وشرعت أشياء أخرى تسقط من الفتوق اللاّمرئية؟ ماذا لو سقطت قطع أثاث أو تُحفٌ؟ أكيد سيظنّ الناس أنه سارق وسيقبضون عليه وسيسلّمونه للشرطةǃ

يجب أن يجد حلّاً مع هذا المعطف الذي اشتراه منذ ثلاثة أيام فقط بثمنٍ بخس من سوق الثياب المستعملة. كان صفقة جيّدة تصُدُّ عنه رياح الخريف الباردة وتحميه من وخز أمطاره. حينما عثر عليه في كومة الثياب القديمة فَرِح وقَلَّبَه من جميع زواياه. رأى أنه من النوع الذي يُعجبه، وفرح أكثر حينما عرف ثمنه البسيط. عاد به إلى بيته وكلّه نشوة بصفقته الرابحة، فغسله بعناية ومدّده على حبل الغسيل وانتظر ليلة بأكملها وساعات من الصباح حتى جفّ تماماً، فارتداه وكأنّما ارتدى معطفاً جديداً تماماً. وأخذ ينظر إلى جسمه المُغطّى بالمعطف وكُلُّهُ سعادة وفخر بامتلاكه معطفا كهذا ما زال محتفظاً بلونه الرمادي اللامع وبسلامة قماشه وبطانته الملساء.

كيف يمكن لمعطف أن يخفي آلة موسيقية بهذا الحجم في طياته؟

غير أنّه لم يخطر قط بباله أن يحدث معه أمرٌ كهذا، اليوم، وأن يكون المعطف غريب الأطوار يُسقِط الأشياء التي لا يحملها معه ولا يعرف قطْعاً من أين تأتيǃ قال في نفسه إنه سيجرّب مرّة أُخرى وسيمشي وهو يرتدي هذا المعطف كي يتأكّد أنّ ما حدث لم يكن هذياناً أصابه بل حقيقة. فنهض لحظتها من مكانه واتّجه صوب المدينة. وما إن اقترب من الشوارع التي يجوبها الناس ذهاباً وإياباً حتى سقط شيءٌ آخر جعل قلبه يقفز من مكانه. كان أرنباً سميناً ذا فروٍ غزير وجميل، نطّ بلا انتظار صوب شارعٍ جانبي واختفى عن الأنظار. فما كان من الرجل المسكين إلّا أن نزع المعطف بسرعة مَهولة وطواه عدة طيّات واضعاً إيّاه تحت إبطه، واتّجه بسرعة صوب منزله الذي يقع في حيٍّ شعبي.

ما إن أغلق باب المنزل حتى أمسك بالمعطف وفَرَده أمامه بكامل طوله، مُتَحَسِّساً مساحة القماش برُمّتها. لم يعثر على شيء طبعاً، فهذا اللباس يلعب معه لعبةً غريبة، وربّما كان معطفاً مسحوراً تَصَدَّق به أوروبيٌّ مجنون لشعوب أفريقيا التي تحتاج إلى المساعدةǃ

لم يكن يرغب قط في التخلّص من معطفه الجديد رغم كل المخاطر المحتملة، فقد تعلّق قلبه وأجزاء جسده المختلفة به. وقرّر قبل أن ينام أن يلبسه في الغد وسيكتشف بنفسه إن كانت هناك مفاجآت أخرى يُحضّرها له المعطف الأوروبي المجنون. خطا الخطوة الأولى، ثم أسرع في مشيته صوب مركز المدينة. وسقط قطٌّ أسود استعاذ منه الرجل ولكنّه لم يتراجع عن قراره، ثم سقطت طاولة كبيرة، وهنا انتبه سيّدٌ وسيّدةٌ كانا يمرّان بجانبه، وأخذا ينظران إلى صاحب المعطف باستغراب. 

وأثناء مشيته الشبيهة بمشية جنديّ مستكشِفٍ سقطت الأشياء التالية بالترتيب: حاسوب، درّاجة نارية، كتاب "تاريخ الأمم والملوك" للطبري، بابٌ خشبي قديم ذو قيمة تاريخية كبيرة، ستّ ملاعق، شُبّاك نافذة، قطار بخاري، وِحدة عسكرية... كان الرجل يمشي إلى الأمام ولا ينظر إلى أحدٍ من الناس المشدوهين الذين بدأوا يتجمّعون حوله وهم يصيحون متعجبين ممّا يرون ويتبعونه حيثما ذهب. وزاد عدد الناس الذين يسيرون خلفه وعلى جانبيه وهم يصرخون من عَجَبِ ما تراه أعينهم. إنه السِّحرǃ

وشرع البعض الآخر يخطف الأشياء التي تسقط قبل أن يأخذها منهم شخصٌ آخر وكان بعض الناس يتشاجرون بعنف للفوز بالأشياء الثمينة، بينما يتركون تلك التي لا ينفعهم امتلاكها أو لا يمكنهم امتلاكها كجُنود الوحدة العسكرية الذين اتّخذوا طريقاً آخر لخطواتهم المنتظمة. وسقطت ساعة حائطية ثم حيّةٌ تسعى، ثم بهلوان سيرك، ثم ثعلبٌ ماكر، ثم قفصُ عصافير خالٍ من العصافير، ثم أريكة، ثم ستار من القطيفة، ثم سبع روايات لأغاثا كريستي باللغة الإنكليزية... وكان الهرجُ والمرْجُ يتنامى من حول صاحب المعطف الذي صمّم على مواصلة المشي مهما حصل.

وجاء رجال الشرطة بعد أن سمعوا بما يحدث في وسط المدينة من فوضى، فاخترقوا صفوف الحشد الملتفِّ حول الرجل الذي يَخرج من معطفه بشرٌ وأثاثٌ وحيواناتٌ، وأمسكوا به. حينها توقّف صاحب المعطف للحظات وقال لرجال الشرطة بجدّية: "لست المذنب، المعطف هو المسؤول عن كلّ هذا. اشتريته منذ أربعة أيام واكتشفت أنّه معطفٌ مسحور. هل تودّون رؤية ذلك؟". تشاور رجال الشرطة في ما بينهم ثم سمحوا له بأن يمشي كي يروا بأمّ أعينهم الأمور العجيبة التي تسبّب فيها المعطف. وبينما هو يمشي في الشارع خرجت من اللباس العجيب دَبّابةٌ، وخرج عساكر يحملون أسلحة، وطائرات حربية بألوانِ دولةٍ معادية، طارت في السماء عالياً... وفجأةً اندلعت الحرب.


* شاعرة من الجزائر

المساهمون