المعاجم العاشقة.. القاموس مساحةٌ للذاتيّ أيضاً

المعاجم العاشقة.. القاموس مساحةٌ للذاتيّ أيضاً

03 فبراير 2021
مارّةٌ أمام معجم عملاق في أحد شوارع تورينو، إيطاليا (Getty)
+ الخط -

يبدو التقريبُ بين الذاتيّة والعَمل المُعجميّ الصارم مهمّةً دقيقةً، ومُفارَقةً صعبةَ الحلّ والتفكيك. وهذه المفارقة هي ما تَصدّت له سلسلةُ "المعاجم العاشقة"، التي أُلّفتْ حَسب المَبدأ الموضوعي، ويَضمُّ كلُّ واحدٍ منها العديد من المداخل المُتعلّقة بالمحور المدروس. وتتجلّى في هذه التسمية طبيعَةُ الأسلوب المُزْجى في صياغَتها؛ أسلوبٍ لا يَجعل منها قواميسَ موسوعيّةً جافًّة، وإنّما كتابات أقرب إلى جنس المحاولة الأدبيّة منها إلى الشّرْح التعريفيّ، بسبب حضور الطّابَع الذّاتي. وقد نَشأت هذه السلسة مطلع القَرن الحالي، وأصْدِر فيها ما يُناهز المائة والأربعين مُعجماً، أيْ بمعدّل سبعةٍ في السّنَة. وهذا ما يُثمَّن دون تحفّظ.

وقد استوحى مُؤسّساها جون كلود سيموين وجيسلن بوافوالو فكرةَ هذه السلسلة من كِتاب دومينيك فرنانديز، "سَفَرٌ إلى إيطاليا"، (1997)، والذي حملَ عنواناً فرعيّاً: "قاموسٌ عاشِق"، (بالفرنسية: Dictionnaire amoureux).

حظيت الثقافة العربيّة-الإسلامية بنصيبٍ وافر من السلسلة

ومنذُ انطلاقها، سنة 2000، لم تتوقّف الإصدارات عن تغطّية موضوعات متفاوتة الأهميّة والحقول، مثل المعاجم العاشقة التي خُصّصت للقطط والبحار والعَدالة والطبخ والموسيقى والمسارح وسائر البُلدان، كفرنسا وروسيا وكندا، فضلاً عن أبرز الشّخصيّات القوميّة، مثل شارل ديغول ونابليون بونابارت.

هذا وقد حَظيت الثّقافة العربيّة - الإسلامية بنَصيب لا يستهان به، حيث وُضِعتْ لها بعض الأعداد، مثل: "المُعجَم العاشِق للإسلام" (2004)، و"ألف ليلة وليلة"، (2010) و"الجزائر" (2012)، وثلاثَتُها من تَحبير الباحث الجزائريّ مالك شِبل (1953 - 2016)، إلى جانب "المعجم العاشق لمصر" (2001)، وهو من أوائِل ما صَدر في هذه السلسلة، و"المُعجم العاشق للُبنان" (2014).

الصورة
غلاف الكتاب

يُشارك في تحرير هذه القواميس كِبار المُؤلّفين الفرنسيّين، كلٌ حَسب اختصاصه البَحثيّ، مع العلم بأن ستّةً منهم ينتمون إلى "الأكاديميّة الفرنسيّة"، وهو ما يُضفي على مضامينها مصداقيّة حقيقيّة، تنضافُ إلى جماليّة أسلوب هذه الأقلام وطلاوتها. أما منهج ترتيب الموادّ فيها فَألفبائي، حيث تَرد الشروح التي تَخصّ الموضوع العام، حَسب النسق التصاعدي، وتأتي متتاليةً، بأحجامٍ متفاوتة، متضمنةً العديدَ من الشواهد والمراجع التي تُساعد من يَبتغي تَعميق مباحثِه ومواصلتها. ويُختَم كلُّ كتابٍ من هذه السلسلة بقائمة المداخل حسب ترتيب ورودها. كما تَتَضَمّن رسوماً باليَد، غَرضُها ليس توضيحيّاً، وإنما تزيينُ المادة ومُؤانسة القارئ بِإضفاء لَمسة جماليّة عليها. ويبتدئ كل عددٍ بمقدّمة يُصرّح فيها الكاتب بِحبّه للموضوع الذي اختاره مجالاً لبَحثِهِ وارتضاه للعشق مَراحاً. وكما يقول المَثَل الفرنسي: "مَن يُحبّ يُداعِب"، يَسمح الكُتّاب لأنفسهم، طيَّ العرض، بنقد بعض الجوانب والثّغَرَات التي تتعلّق بموضوعاتهم، ومن ذلك أنّه في "القاموس العاشق لمصر" خُصّصَ مَدخلٌ لمفردة "بقشيش" وآخَر لـ"إن شاء الله"، في نقد مُبطنٍ للاتّكاليّة والطمع.

وقد تتبادر إلى الذهن مُفارقة الجمع بين العشق وصناعة المَعاجم، باعتبار أنّ الأوّل عاطفةٌ مَشبوبة، مُستقرّها أعماق الذات، قد يُعَبَّر عنها بصُوَر الأدب، وأنَّ المَعْجَمَة عَملٌ ذهنيّ، يتطلّب هندسةً عقليّة صارمة من أجل تَخيّر المداخل وجمعها وترتيبها فَشَرْحها. لكنْ سرعان ما تَسقط الحُدود بين هاتيْن الدائرتَيْن وتتلاشى الفروق الظاهريّة بينهما، حين يكتشف المُحرّرون مدى الكَلَف الذي يُضمرونَه لمَوادّهم، فَيَسترسلون، طيلة صفحاتٍ، في العَرض والتفسير. وبمجرد الشروع في الحَديث عنها، يَنقادون إلى ما يشبه "اللعبَة التحريريَّة"، فيتراخون في العَرض العِلميّ حين يَتَسَلّم العشق دفّة الكتابة وتَسير مَوادُّهم كمَقاطِع الغَرام وأشجانه.

تعود أحياناً مقولة "الاستثناء الفرنسي" تَحت غطاء معجمي

وربّما لهذا السبب، لقِيت هذه السلسلة صدىً واسعاً لدى جمهور القرّاء عبر العالَم الفرنكفوني، يَقرأون موادَّها في حُريّة وتَراخٍ، كأنّما يَقرأون روايةً أو صفحات من الصّحافة المُسليّة، ولكنْ يَشدّها خيطٌ ناظمٌ واحدٌ، كأنما يُهدي المُعجم "نزهةً"، يَتَسَكّع الواحد خلالها في خبايا الموضوع المُختار وأرجائه المَغمورَة. وهكذا، يمكن للقارئ الظمآن أن يَستكشف معلوماتٍ وافية، فيما يُخفيه، على سبيل المثال، "المُعجم العاشق للجُزر" (2020) أو "معجم موسيقى الروك" (2020)، أو ذاكَ المخصص للأشرعة (2020)، وغيرها من دَقائق الموضوعات التي تناولها الكُتّاب في السّنة الماضية.

إلا أنَّ العلاقةَ بين المعجم والغرام قد تصبحُ خطرةً، بل ومَثار شكوكٍ، حين تغدو نوعاً من "الدلال" الذي يضرُّ بالمواد المشروحة ومعايير اختيارها وبالنَّفَس النقديّ الذي ينبغي أن يُوَجّهها. ومن المَعلوم أنَّ "شهادَة العاشق مَجروحَة" وأنّ حديثَه عن المعشوق ذاتيّ، يُخفي جوانبَ منه أو يضخّمها، وقد يشوّهها في سَوْرة الانجذاب فتُغمَر الحَقيقة في سَذاجَة الأوهام.

ومن بين هذه الأوهام، هيمنة البُعد القوميّ في اختيار الموادّ والمحاور، فَجُلّها ممّا يتّصل بتاريخ المكوّنات الثقافيّة لفرنسا عبر العصور. ومن ذلك، المعاجم التي خُصّصت للخُمور والأجبان والشخصيّات والأساطير والأكلات والمُحافظات الفرنسيّة. كأنّ الدافع الضمنيّ الذي يحرّك هذه الاختيارات هو الإشادة بمَفاخر البلد وأمجاده، في استعادةٍ، ظاهرها علميٌّ، لمَقولة "الاستثناء الفرنسي" التي طالما تغنّى بها السّاسة منذ عُصور الاستعمار وها هي تعود تَحت الغطاء المعجميّ.

ولذلك، يبدو من المَشروع أن نتساءل عن معايير اختيار المحاور وترتيب الأوليات. فهل هي مرتبطةٌ، فقط، بروزنامة الطبع واقتضاءات التحرير والبرمجة أم ثمّة من ورائِها اعتباراتٌ تجاريّة وحتّى سياسيّة، يُراقِبها شُرطيُّ اللاشعور. خصوصاً وأننا نرى أن أيّاً من لغات العالَم لم تحظ بقاموس مُخصّص لها، إذا ما استثنَينا الفرنسيّة (2014)، و"المعجم العاشق للغات" (2009) الذي صاغة الألسني الفرنسي كلود حجّاج.

كذلك يدفعنا انبناء اختيارات مَحاور القواميس على موضوعات مُحبَّبَة - قريبة للمشاعر الجمعيّة - إلى التساؤل عن إمكانية تَخصيص معاجم للمحاور البَغيضة إلى النفس والتي لا يمكن أن نَكتبَ عنها بعشق. فهل يمكن أن تشمل هذه السلسلة معاجمَ عن هتلر وتَرامب والحروب والأوبئة والعنصريّة وغيرها من الآفات وفظيع الشخصيات؟ علميّاً، لا شيءَ يَمنع من ذلكَ. بل بالعكس، تمثّل هذه الحقول البغيضة أحد أثرى حقول البَحث والتساؤل. ويمكن أن نكتب عنها بحبّ كبير، وهو ما يؤكد أنّ هذا "العشق" ينتمي أكثر إلى أسلوب التحليل وطريقة العَرض، وربما إلى الأثر الذي يُسعى إلى تحقيقه لدى المتلقّي.

وهكذا، فالقواميس العاشِقة طريقة أصيلة في صنع المعاجم والتعريف بالموارد والمحاور. وفيها يمتزج العلمي، أيْ القول المُعرِّف للأشياء وللمفاهيم في صرامةٍ ووضوحٍ، بالذاتيّة التي تغلّف هذا القولَ وتُسبغ عليه شَذرات صَبابَةٍ وكَلَف. يبقى أنَّ ملاك الأمر كلُّه في التوازن وحُسن التقدير بين هذيْن البُعدَيْن. لذلك، لا يَسعنا إلّا أن نَقترح تصوّراً للمعاجم العاشقة بالعربيّة، مع التأكيد أنّها كفيلة بأن تشمل الحضارة العربية - الإسلاميّة على اتّساع آفاقها وتنوّع موضوعاتها. ولا شك أنّه لدينا الكثير من الكُتّاب المقتدرين الذين بإمكانهم تلبية هذا النداء والشروع في وضع عدد من الموضوعات المُحددة للتعريف بها في لغةٍ علميّةٍ... عاشقة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون