"القاهرة" لـ علاء الديب.. في دائرة العشق والقتل والانتحار

20 ابريل 2025
لم يَنَلْ، روائياً وقاصّاً، الاهتمام الذي يستحقه علاء الديب
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- إعادة نشر مجموعة "القاهرة" القصصية للكاتب علاء الديب بعد ستين عاماً من صدورها الأول عام 1964، مع مقدمة لسيد محمود، تسلط الضوء على عدم حصول الديب على الاهتمام المستحق كروائي وقاص.
- تتضمن المجموعة قصتي "الشيخة" و"القاهرة"، حيث تتناولان موضوعات الحب والموت والضدية بأسلوب سردي مميز، مع شخصيات معقدة مثل "الشيخة" الغامضة وفتحي الموزع بين مشاعره المتناقضة.
- تتميز قصص الديب بلغة شعرية غنية ومليئة بالمفارقات، مما يعكس رؤيته العميقة للعالم ويبرز قدرته على تحويل القصص إلى تجارب إنسانية تستحق التقدير.

"القاهرة" عنوان المجموعة القصصية لعلاء الديب التي صدرت له عن سلسلة "الكتاب الذهبي"، وهو دون الخامسة والعشرين، وأعيد نشرها في "دار الشروق" مؤخراً، بعد ستين عاماً من صدورها الأول عام 1964، بمقدّمة لسيد محمود بعنوان "علاء الديب الذي ظلّ بعيداً".

هذا العنوان كما نفهم منه يلمّح إلى أنّ علاء الديب لم يَنَلْ، روائياً وقاصّاً، الاهتمام الذي يستحقه. يكفي أن نباشر القراءة لنفهم أنّ العنوان في محلّه، فهذه القصص، بعد كلّ الوقت الذي مضى عليها، لا تزال تلفت الانتباه. بل إنّها تبدو، مع ذلك، ذات فرادة لم تَنَلْ منها السنون. 

من نصوص الكتاب قصتا "الشيخة" و"القاهرة"، وهما أقرب إلى أن تكونا روايتَين قصيرتَين. في بدايات "الشيخة" نقرأ: "قبل أن يستريح ربّ هذه القرية، ترك في وسطها شيخة كانت تختلف عن كل الأهالي". ليست الشيخة هي الوحيدة المختلفة، فالنصّ مختلفٌ أيضاً. لم يصطد علاء الديب الشيخة من الواقع، إنها تبدو من الواقع لكن سرعان ما تتجاوزه، إلى ما هو بعده. 

العشق في كلّ قصة من القصص هو وجه آخر للضغينة

هذا الواقع الجديد يبدو حقيقياً بقدر ما يتخطّى الواقع. الشيخة التي تجلس ليلاً على صخرتها السوداء، لا نعرف من أين استحضر علاء الديب السواد للصخرة، لكن الشيخة تخرج في النهار لتسير في شوارع القرية و"عيونها تضرب إلى داخل كل بيت، فتختفي النساء من عيونها، ويلتصق الأولاد بالجدران، ويسقط في قلب الرجال الرعب".

هكذا لا يعود الليل ليلاً ولا النهار نهاراً، لكنهما يبقيان مع ذلك كما هما، ليلاً ونهاراً. نحن أمام أسطرة واضحة للشيخة التي "تعرف كل شيء عن أناس القرية، بل هي التي تحميهم وهي سر وجودهم". إنهم يصدعون لوصاياها، ويتلقونها كنبؤات صحيحة. الأهالي يتجمّعون حول بيتها، أهل القرية هم أيضاً غرباء، لكن هذه الغرابة ليست شيئاً أمام منسي، الرجل الذي يفد إلى القرية. في البداية نفهم أن منسي هذا ليس من أهل القرية، ولا يصله بالشيخة وأهالي القرية أي رابط، ثم إنه نقيض الشيخة في المظهر والسمت والسلوك.

هذه الضدية تستثير الشيخة، لدرجة أنها تتزوجه. هذا الزواج يضيء على افتراقهما، لكنه يكشف حقيقة الاثنين التي تخفى عنهما. يفقد منسي امتيازه، وكذلك تفقد الشيخة صفاتها، إلى أن تنتهي القصة. الرواية تنتهي بموتها، بعد أن انطفأ سحرها وباخت أسطورتها. ليست الفرادة في تسلسل الحوادث، بل هي أيضاً في اللغة نفسها. اللغة التي هي أيضاً بنت الخيال الذي ولّد القصة: "يجلس منسي بين الرجال الذين يحملون الحياة على ظهورهم، إنه من أولئك الذين يسقطون صرعى الحياة".

ثم هناك جاد، مغني القرية المُصاب بالصرع. الشيخة تعالجه "في الأودة" التي لا يلبث أن يفرّ منها، وهو يصرخ أن الأودة فاضية. الرواية هي هكذا انحدار للجميع، الشيخة ومنسي وجاد. جميعهم لا يلبثون أن يصلوا إلى نهايات محزنة، تقتل منسي كما أن الشيخة تموت وحيدة. 

ليست "القاهرة" شيئاً آخر. فتحي عشيق عقيلة، لكن العشق هنا، كما هو في كلّ قصص المجموعة، قد يكون وجهاً آخر للضغينة. فتحي موزّع بين عقيلة؛ التي يتقلّب في مشاعره نحوها. إنّه لا يطيق البقاء معها، فيما هي البغي التي تلاحقه وتريده أن يتزوجها، وبين أخته فتحية وأخيه أحمد المحتضر. 

يبتعد فتحي عن عقيلة أياماً، لا تلبث في نهايتها أن تقصده في بيته، وتدخل عليه في الوقت ذاته الذي في الناحية الأخرى من البيت، كان أخوه يجود بروحه. أخوه ينادي عليه "نفسه المرتفع يختلط باسم أخيه"، أما فتحي فيشعر حيال ذلك بـ "الأشياء التي لم يقتنع أنّه قادر على فعلها، تصبح الآن بسيطة، أن ينتحر، أن يقتلها، الساعات تتقدّم والموت يصبح قديماً في البيت".

لأوّل مرة يشعر بأنه حقيقة خارج المدينة، أنّ القاهرة بالنسبة إليه ذكرى بعيدة. أما عقيلة، من الناحية المقابلة، فأحسّت بحنان وشوق، إلى أن تقوم بأعمال صغيرة وجميلة. "فتحي كان مشغولاً بالفراغ الذي يسقط فيه، ولم يجد شيئاً يقوله سوى اسمها"، "فتحي كان في المقابر يفكر في عقيلة، وكان وهو نائم مع عقيلة يفكر في جسد أخيه الميت"، هذه المقابلة، بل المفارقة، بين أخيه وبين عقيلة ليست مجانية، إنها صلب القصة، أو هي على الأقل مجراها. 

موت أخيه يستدعي فكرة الزواج من عقيلة. إنه الموت وراء هذه الفكرة، التي تبدو وكأنّها هو، أو أنها صورة أخرى له. يتزوج فتحي عقيلة، لكنه لا يفرّق بين ذلك وبين قتلها: "أمسك رقبتها بين يديه وخنقها". هذه البادرة حوّلته، جعلته يتألّه "وبالفعل أصبح الإنسان إلهاً". نحن هكذا أمام وجوه عديدة للموت، الذي يغدو وجهاً آخر للعشق، ووجهاً ثانياً للألوهية. تجاه ذلك ينفذ علاء الديب، إلى ما يكاد أن يكون مجانية كاملة، أو سلباً كاملاً. نحن هنا أمام ضدية متكاملة في دائرة من العشق والقتل والانتحار. في مكان آخر يقول علاء الديب: "ما زلت أحلم أن يلاقيني الشعر في آخر العمر". الشعر هو الذي يجمع ذلك كله، بمفارقاته وضديّاته، ما يجعل منه واحداً.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون