استمع إلى الملخص
- في عرضها الأخير بقيادة المخرج ماهر صليبي في الدوحة، افتتحت المسرحية "مهرجان الغرّة للآداب والفنون"، حيث استقطبت جمهوراً كبيراً، مما يعكس جاذبيتها المستمرة.
- التزم المخرج بالنص الأصلي مع بعض الإضافات، وقدم المسرحية باللغة العربية الفصحى، مما أضفى عمقاً على العمل المسرحي.
لا نعرف كم مرّة مُثّلت مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" منذ أصدرها قطب المسرح العربي سعد الله ونّوس عام 1969، فهي مغرية دائماً لأن يُعاد تقديمها كما هي، في مشاهدها الأربعة، على مدار ساعة، وكما هي محمولة على ياء النداء في العنوان، بحيث يظلّ جملة استنكارية تامّة أو ناقصة ومقصوفة مثل أعمار الصغار.
هذه المرّة جاء رهان جديد على تقديم المسرحية بقيادة المُخرج السوري ماهر صليبي في الدوحة، حيث افتتحت "مهرجان الغرّة للآداب والفنون" مساء الخميس في حديقة الأكسجين بالمدينة التعليمية، ويستمرّ حتى اليوم الاثنين.
وكان أوّل أمس الجمعة العرض الثاني والختامي للمسرحية، وقد امتلأ المسرح الرئيسي في الهواء الطلق للحديقة بجمهور "الغرّة"، وهو المكان الذي يشهد العروض الموسيقية والغنائية والمسرحية، وبالتالي يستقطب الحصّة الكبرى من الحضور الجماهيري.
الفيل؛ رمز الدولة الأمنية الذي يعيث خراباً من دون محاسبة
في كلّ مرّة يجب أن نحدّق في الفيل؛ رمز الدولة الأمنية، الذي يعيث خراباً من دون محاسبة، لأنّه فيل مدلّل عند الملك، يدوس أطفالاً ويدمّر بساتين وبيوتاً وحيوانات أهلية، أي إنّه مغطّىً بحماية السلطة الغاشمة، وهي سلطة لا ترى في الشعب سوى رعية صالحة مؤمنة وقدرية تسبّح بحمد الملك، لأنّ الملك يحبّها ويصفها دائماً بأنّها "حنونة ووفية".
الملك يؤدّي دوره الفنّان السوري جمال سليمان، بينما "زكريا" الناشط والناطق باسم الشعب يؤدّي دوره الممثّل الأردني رشيد ملحس، وهما مع أفراد المسرحية يصل عددهم إلى 22 شخصاً، يمثّل الشعب غالبيتهم الساحقة.
لذلك، ليس بالجديد أبداً أن يكون الشعب هو الأغلبية التي تحكمها نخبة وحاشيتها وأدواتها، لكنّ نص سعد الله ونّوس (1941 - 1997) يجيش عاطفة على مآل الشعب الذي يموت ضحايا منه تحت قوائم الفيل، ثم يهجوه دون أن يقول ذلك، بل يترك الهجاء للجمهور، وقبل ذلك للممثّلين الذين يختمون آخر مشهد بأنّهم كانوا يمثّلون ويسألون الجمهور: "هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفيلة؟".
كان ذلك الختام من أعمق وأبسط ما أتى به المسرحيون العرب من كسر للجدار الرابع، فـ"عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أُخرى.. دموية عنيفة. وفي سهرة أُخرى سنمثّل جميعاً تلك الحكاية".
أرادت "مؤسّسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع" أن تتبنّى عملاً معاصراً، وباللغة العربية الفصحى، وحيوياً في الوقت ذاته، دون أن نتخلّى عن الشكل الكلاسيكي للمسرح، فكانت مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" ملبّيةً بقوّة لهذا التوجّه.
هذا ما يُخبرنا به المُخرج ماهر صليبي، موضّحاً أنّ المؤسّسة حرصت على عدم اللجوء إلى تقنيات مثل الهولوغرام، أو شاشات إل إي دي، أو الرسم ثلاثي الأبعاد وما شابه، متوجّهة إلى الشباب بالقول إنّ ثمّة في المسرح الكلاسيكي ما يمكن أن تحضروه وتسعدوا به باللغة العربية الفصحى ومن دون تكنولوجيا.
تظهر الجموع كما أرادها ونّوس في النصّ الأصلي، أرقاماً فقط
بأقلّ قدر من الكلمات يمكن إيجاز المسرحية بأنّها تدور في مملكة، لا يأمن شعبها على نفسه بسبب فيل يسرح ويمرح بين الأحياء والأسواق فيؤذي الناس ويدمّر أرزاقهم، حتى إنّه داس أحد أطفالهم، ووصل الضيق بهم إلى حدّ لا يحتمل، إلّا أنّ الخوف يجعله محتملاً؛ فهذا فيل الملك، ومن يمكنه الاعتراض بكلمة على الفيل المدلّل؟
يأتي من بين الشعب "زكريا" صاحب الكاريزما الفصيحة، ليلعب دور المحرّض ويدفعهم إلى توحيد صوتهم وطلب مقابلة الملك لبثّ شكواهم من الفيل، وكانوا فعلاً صوتاً واحداً.
لكنّهم حين مثلوا بين يدي الملك، انكشفوا عراةً من أيّ شخصية جماعية متّفقة على مطالب الحدّ الأدنى، أمّا كلّ واحد منهم بصفته الفردية فكان لا يثق بقدميه إلى أيّ مستقبل يمكن أن تقوداه، وبدل حقّهم الذي يسعون له، دفعهم الخوف إلى إبلاغ الملك بأنّ قضيتهم هي أنّ الفيل يبدو وحيداً "لذلك فكّرنا أن نأتي نحن الرعية فنطالب بتزويج الفيل كي تخفّ وحدته وينجب لنا عشرات الأفيال".
كان المخرج ملتزماً بالنصّ مع إضافات بسيطة في الحوار لكسب مزيد من الحيوية، ومن ذلك إدخال كلمات من الدارجة السورية للتعبير عن انفعال ما.
المساحة التي أراد أن يترك فيها المُخرج بصمة هي إدارة الحيّز العام بشكل جيّد من الحارة الشعبية وصولاً إلى القصر الملكي حيث السينوغرافيا تضمّنت فضاءً ضخماً من بيئتَي القاع والقمّة، وخصوصاً البيئة الأُولى لأنّها هي لبّ المأساة والكوميديا.
كلُّ واحد من الممثّلين كانت له شخصية وزيّ يشير إلى ذاتها، وجاء تصميم الملابس ليُعبّر عن ناس يعيشون تحت عرش ملك الزمان، وعليه كانت ملابس عصور عربية شرقية قديمة، كالتي نتخيّلها في عالم ألف ليلة وليلة.
جميعهم بلا أسماء ما عدا زكريا. وهنا قال ماهر صليبي لـ"العربي الجديد" إنّ الشخصيات الواردة في نصّ سعد الله ونّوس هي أرقام مثل "رجل رقم واحد" و"امرأة رقم 3"، فارتأى أن يحوّل هذه الأرقام إلى شخصيات، ما يجعل تأثيرها أعمق، فيسهل استحضارها بعد أن أصبح لها كينونة، مثل المرأة العجوز، (هزار الحرك) والمغنية (سهير صالح) وشيخ الدين (مؤيد الخراط)، وبائع الخضار، وشباب لمجرد رؤيتهم يحيلون على شخصيات مألوفة في الحارة من دون حتى معرفة أسمائهم، ويتميّز كلّ واحد منهم بهوية جسدية وصوتية.
حرّاس الملك على استعداد بسيوفهم على الخصور، بالأزياء التي نتخيّلها، بيد أنّ الملك وهو يستقبل رعيته، لم يكن محاطاً فقط بحرّاسه ذوي السيوف الحادّة، بل بزملاء عصريّين مفتولي العضلات يرتدون بدلات سوداء، وعلى عيونهم نظّارات سوداء.
أربعة مشاهد تبدأ من الحارة المنتهكة بهجوم عاصف للفيل والناس يفرّون ذاهلين، ثمّ المخاض العسير الذي يريد مواجهة هذا الأذى بمقابلة الملك، فالوصول إلى بوّابة القصر، وأخيراً إذعان الشعب لسلطة الملك، والحقيقة هي غياب أيّ وجود ذي معنى لهذه الجموع الراكعة. إنّهم، كما أرادهم ونّوس في النصّ الأصلي، أرقام وفقط أرقام.
لكلّ مشهد أغنية من ألحان كرم صليبي وأداء المغنّية التي تجلس في الزاوية اليمنى من الخشبة وتنسج على النول مثلما تنسج الحكاية، وتغنّي قصائد ألّفها الشاعر محمد أسعد. أمّا الحوارات والحركات، فقد رافقتها إيقاعات حية عزفها عبد الهادي الحمصي.
تعاونت الفنّانة السورية يارا صبري مع زوجها ماهر صليبي في إخراج المسرحية، وكان دورها بالأخص منصبّاً على البروفات الأوّلية والتدريب على الإلقاء، إذ الكثير من الشخصيات لم تصعد على خشبة المسرح من قبل.
وكانت الفنّانة قد خاضت مثل هذه التجربة في كندا التي عاشت فيها سنوات بعد الحرب في سورية، في مسرحية "كرز"، واضطلعت بتدريب العناصر التي ظهرت في العمل لأوّل مرّة.
أخيراً، قال صليبي إنّ أيّ نصّ لسعد الله ونّوس هو محلّ تقدير عنده، ورغبة في تقديمه من جديد، لأنّه يكتسي صفة عابرة للزمان والمكان، مبيّناً أنّ الشباب كان لهم النصيب الأوفر بين الحاضرين، وهذا يدفع دائماً لمزيد من الشغل المسرحي، الأمر الذي لم أكّد أنه لم يغفله منذ 2011 مع سطوة السوشال ميديا، حيث عمل عدّة مسرحيات، مشيراً إلى رفيقة دربه يارا صبري ومسرحية "تحت السما" وهي مونودراما قدّمتها عام 2016.