العائدون من المستقبل

العائدون من المستقبل

03 اغسطس 2021
تنصيب للفنان الألماني أوتمار هورل يستعيد فيه الشاعر هولدرلن (من موقع الفنان)
+ الخط -

بعض الكتّاب المَنسيين، حين تفاجئنا مقالاتُ أحدهم أو كتبُه، نأسفُ لأننا لم نعرفهُ في زمنه، ولم ننشأ تحت ظلاله. وقد نقول، كما قال لي صديقٌ منذ وقت قريب وهو يناقشني، هذا الكاتب الذي نكتشف أنه قامة فكرية عالية طُمست في زمنها ولم يكن له تأثير يُذكر، يصبح حين يستعاد الآن خارج الزمن، إنه عائدٌ من زمن آخر، ولذا سيكون تأثيره غير ذي قيمة. إنه بتعبير آخر، كمن تأخر مجيئه كثيراً، بحيث يدخل، هذا إن دخل، غريباً عن عصرنا، وغريبة كتاباته.

ويضيف هذا الصديق: "لا أشك أن تأثيره كان سيكون هائلاً لو برز في زمنه، وعرفه الوسط الثقافي، أما وقد تضافرت عوامل عديدة على إلقائه في العتمة، مثل أن يكون اختار العزلة بقرار شخصي، أو عَزَلَتْهُ رؤيته التي تخطّت الرائج في عصره، أو تطلع إلى إنجاز آثار تتخطى زمنه فرهن قيمته بين أيدي من يكتشفه من الأجيال المقبلة، أو تعرّض لحرب إنكار وتنكير ومحو من قبل هذه الجماعة أو تلك لأسباب سياسية، فلن نملك، نحن الذين اكتشفناه متأخرين، نحن الجيل اللاحق، الثاني أو الثالث بعد عصره، إلا الاعتراف بأن قيمته وقيمة آثاره تظل رهينة زمنه وليس أي زمن آخر. فإن وصلنا بمصادفة ما، على يد شغوف بالبحث والتنقيب، أو باحث يدير ظهره لأساطير عصر مضى ويبحث في ما أهمله أو ما لم يفهمه، فلن تستفيد منه ثقافتنا؛ لقد نشأنا وتكوّنا أو "تبرمجنا"، ولم يعد ممكناً، لا إعادة برمجتنا ولا برمجة ثقافتنا". 

الرجوع من المستقبل نموذجٌ يتكرّر في أكثر من ثقافة

ولكن.. حين أكتشف في هذا الكاتب المنسي في زمنه قيمة ثقافية كبرى، لا أذهب مذهب هذا الصديق، فأنا من الذين يعتقدون أن هناك أمثلة كثيرة تشهد على أن كتّاباً تجاهلهم عصرهم، وغابوا في الضباب، لهذا السبب أو ذاك، عادوا إلينا من المستقبل. وبدا وكأنهم يحيون مُجدداً حياة ربما تكون أكثر خصباً من حياة الأحياء الذين يعيشون بيننا، وبدا أن أعمالهم تعيد تشكيلنا؛ تشكيل رؤيتنا إلى أنفسنا وإلى العالم من حولنا. 

العودةُ من المستقبل نموذجٌ تكرّر في أكثر من ثقافة. عاد اليوناني كافافيس، شاعر الإسكندرية، مثلاً، بعد نصف قرن من غيابه. بل وعادت عصورٌ ثقافية كاملة بعد أن طُمست ونُسيت، ومارست تأثيرها مجدداً، وفعلت فعلها ولا تزال حتى اليوم، مثلما عاد إلى الغرب العصران اليوناني والروماني في وقت واحد، وتخلقت في ظلالهما حداثة العصر الراهن. وتحضرني شخصية من الشخصيات البارزة التي عادت بعد نسيان، تلك هي شخصية الشاعر الألماني هولدرلن. 

لقد احتاج الأمر زمناً طويلاً ليكتب عنه ستيفان تسفايغ هذه السطور المؤثرة: "إنه ليبدو غريباً جداً وهو معلّقٌ عبر الزمان (منتصف القرن التاسع عشر)، وقد مات صدى اسمه في الآذان، ونُسيت روعته إلى حد بعيد، وحين يرقد ذاتَ يومٍ ويموت، لا يثير هذا الأفولُ الهادئ في العالم الألماني صوتاً أقوى من صوتِ ورقة خريفية مرتعشة. ويحمله العمّالُ في رداءٍ حائل متآكل إلى القبر، وتُحفظ، على سبيل التسلية، الآلاف من أوراقه المكتوبة. ثم يظلّ يعلوها الغبارُ طوال عشرات السنين في دور الكتب، وتظلّ رسالته طوال جيل كامل لا يقرأها الناس ولا يتلقونها. وتختفي صورةُ هولدرلن الفكرية في ركام النسيان أعواماً وعقوداً، مثلما يختفي تمثال إغريقي في باطن الأرض، ولكن عندما يُنقبُ عن الفلذة المبتورة أخيراً جهدٌ ينطوي على الحبِّ ويخرجها من الظلام، يشعر جيلٌ جديد، وقد تولاه العجبُ، بصفاء صورة الفتى المرمرية الذي لا سبيل إلى تعكيره".

عادت عصورٌ كاملة لقدرتها على التأثير بعد أن طُمست

هذا هو ما أسميه العودة من المستقبل. أعني أن الأعمال الثقافية، وخاصة الأعمال التي تتوفر على بصائر تخترق غيوم الزمن ولا تكون رهينة العابر والمؤقت، تحمل معها قيمتها بذاتها، ولا ينتقص من قيمتها أن تكون أجيالٌ حُرمت منها، أو أنها لم تستطع أن تساهم في "برمجة" ثقافة هذا العصر أو ذاك، لأن ثقافة من هذا النوع، لم تتوجه في الأساس إلا إلى الكلّيّ والشامل، إلى الإنسانية في مسيرتها الطويلة. ولا يمكنني القول إنها تأخرت في الوصول.

لا أشك بالطبع في أن مساهمة هذه الأعمال في برمجة ثقافة عصرها بالذات تعتبر امتيازاً إضافياً، إذ ستكون قد ساهمت في التقدم الإنساني إلى حد ما، ولكن ماذا لو تغلبت عواملُ القصور والجهل والتجاهل، وحجبت حضورها لفترة زمنية قصيرة أو طويلة؟ 

حين تصل هذه المساهمة في النهاية، وتؤدي رسالتها، لا تكون آتية من زمن آخر، أو لا تكون خارج زمنها، لأن ليس لها زمن محدّد، ولأن لا أحد يستطيع تحديد زمن للثقافة، لأنها تنوير، ومثلما لا يستطيع أحد الزعم أن النور تنتهي صلاحيته في هذا المكان المظلم أو ذاك، لا يستطيع أن يحدد للثقافة زمناً دون آخر.  

عند هذه النقطة يمكن أن يعترض أحدهم ويبدو اعتراضه وجيها للوهلة الأولى؛ وأتخيّله يقول: ولكن أمثلة هذه العودة من المستقبل التي تحضركَ، كلها أمثلة من ثقافة أخرى، أمثلة من الثقافة الغربية! ونحن نعرف أنها، عكس الثقافة العربية الراهنة، تمتلك ذاكرة حية، هي ذاكرة تعيد النظر في عصورها الماضية، وتحتفظ بأحيائها وأمواتها، ولا تسمح لعوامل القصور والإهمال بالبقاء طويلاً. إنها ثقافة تجيد التقاط مفكريها وشعرائها وروائييها المنسيين، هذا إن تم نسيانهم، وتجيد العودة إلى تراثها القريب والبعيد ولا تسمح لأجيالها بأن تكون أجيالاً مثقوبة الذاكرة. 

فأقول: نعم هي كذلك، بل هي تحتضن حتى من خرج عليها، وتعود به إلى أجيال لم تسمع به ولم تقرأ له، وتدخله، وكأنها تعيد ما أطلقتُ عليه "برمجة" الثقافة قرناً بعد آخر. ألا نلاحظ هذه الحيوية، في الكيفية التي تعيد فيها الثقافات تنسيق وهندسة كياناتها الثقافية وسلالم قيمها ورؤيتها للعالم بين عصر وآخر في ضوء ما تكتشفه في ماضيها وما تجربه في حاضرها؟ 
هذه هي الثقافات الحية التي يعود فيها الفلاسفةُ والشعراءُ والمفكرون والفنانون من المستقبل، أي يعودون إلى الحياة مجدّداً وإلى المساهمة في ثقافتهم، فيغنون ويغتنون، حين يُنتزعون من غياهب النسيان ولو بعد قرون وقرون.

ولكن هذا الشاهد الذي ذكرته معترضاً يؤيد ما أذهب إليه تأييداً تاماً؛ أنا حين قلتُ إن لا أهمية لعودة الثقافي متأخراً ولو بعد زمن، وأن قيمته بذاته، وأنه حين يعود في أي عصر يظل قادراً على مخاطبتنا، وعلى برمجتنا، كنت أعني أن مشكلة تغييبه، أو طمس آثاره حيناً من الزمن، لا يتحمل مسؤوليتها هذا الذي يعود إلينا متأخراً، أو هذا الذي حرمنا من منتجاته، بل هي مسؤولية ثقافة تعيش بلا ذاكرة، وتتلذذ بالعابر والمؤقت، ولا يعني أصحابها أيَّ مصير من المصائر التي تتجاوز أعمارهم القصيرة. أصحاب هكذا ثقافة غير حية هم الذين يفصلون بين ماضيهم وحاضرهم، ولا يتطلعون إلى ما يتخطى لحظاتهم الراهنة، وسيكونون سعداء مع كل صفحة تطوى من صفحات ماضيهم، وتتعاظم سعادتهم إذا لف النسيان كل ما انطوى من صفحات. هؤلاء لا يعرفون ظاهرة العائدين من المستقبل، ولا يحتفون بأي كشف أو بحث جديد، فلديهم الثوابت التي استقروا عليها واختاروها، ينقلونها كما ينقل عبيد الأوثان تماثيل آلهتهم في حلهم وترحالهم. وينقلونها، كما في حالتنا من ماضيهم إلى حاضرهم. 

ظاهرة الاحتفاء بالعائدين من المستقبل دليل حياة وليس دليل موت، أي أن الثقافة المعنية تمتلك الرغبة في استعادة ما أفقده إياها تعصبُ عصرٍ ما، أو غيبته عن وعيها مصالحُ عصبة، أو انحطاطُ قيم ألمّ بالذائقة وحسن التقدير. هي مشكلة ثقافة إذاً، نسيت أن تتحسّس ذاكرتها، وليس مشكلة أفرادٍ غيبتهم ظروف معينة عن ثقافة مجتمعاتهم وعن التأثير فيها. حين يعود هؤلاء، يكون معيار غربتهم أو ألفتهم بالنسبة لنا ما تمتلكه أعمالهم من رؤى تخطت زمنها إلينا، واستطاعت إعادة "برمجة" بوصلتنا في الاتجاه الصحيح ولو بعد حين.  


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون