الطبيعة وصناعة الحبكة في روايات إبراهيم الكوني وسمير يوسف

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 07:03 (توقيت القدس)
لوحة "منظر طبيعي من سان ريمي" لفان غوخ، 1889 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد الرواية العربية تزايداً في استخدام الطبيعة كعنصر سردي يعكس العلاقة بين الإنسان ومحيطه، كما في "غابة" لسمير يوسف و"معزوفة الأوتار المزمومة" لإبراهيم الكوني.
- في "معزوفة الأوتار المزمومة"، يستخدم الكوني الطبيعة كحقل دلالي لاستكشاف الوجود الإنساني، حيث تتحول الصحراء والثلج إلى علامات فلسفية، مما يعكس التضاد بين الجنوب الليبي والشمال الأوروبي.
- رواية "غابة" تتناول صراعاً بين الطبيعة والتكنولوجيا في قرية فرنسية، حيث يقف توماس ضد مشروع تكنولوجي، وتنقسم الشخصيات بين الدفاع عن الطبيعة ودعم المشروع لأسباب اقتصادية.

لا يرتبط الحضور المتزايد للطبيعة في الرواية العربية، بتنامي الوعي عالمياً بالتغيرات المناخية والمشكلات البيئية التي تؤثر في تفاصيل الحياة اليومية فحسب، إنما بات هذا الفضاء بما يحمله من تمثلات رمزية وحضور في مجرى الأحداث عنصراً أساسياً في السرد، فهو يعبّر عن محاولة لفهم العلاقة بين الإنسان ومحيطه بوصفها علاقة وجودية وأخلاقية وسط الحروب والأزمات.

من بين النماذج البارزة في هذا الاتجاه، تجربتان تبدوان متباعدتين جغرافياً وزمانياً، لكنّهما تلتقيان في جوهر الرؤية: الكاتب اللبناني سمير يوسف في روايته "غابة" (دار نوفل، 2025)، والكاتب الليبي إبراهيم الكوني في عمله التأمّلي "معزوفة الأوتار المزمومة" (دار سؤال، 2016)، كلاهما يعيدان تعريف الطبيعة لا بوصفها خلفية للأحداث، بل بكونها قوّة حيّة تشارك في صياغة المعنى الإنساني، وتختبر حدود الحضارة المعاصرة في علاقتها بالكون.

يكتب الكوني بوعي أنثروبولوجي عميق يجعل من الطبيعة نصاً مفتوحاً للتأمل. الصحراء والثلج، الشجر والرياح كلها تتحوّل في نصّه إلى علاماتٍ للوجود الإنساني، في مزيجٍ من الفلسفة والميتافيزيقا والشعر. ولا يصف الطبيعة كما تُرى، بل كما تتجلّى، فحين يقول إنّ "اصفرار أوراق الأشجار تجسيدٌ لأنفاس النزع الأخير"، فهو يخلع على المشهد البيئي حسّاً إنسانياً خالصاً، يجعل من الدورة الطبيعية مرآةً للمصير البشري.

ينتقل الكاتب من الجنوب الليبي إلى الشمال الأوروبي، من صحراء الطين إلى ثلج الألب، غير أنّ هذا الانتقال لا يُبطل جوهر رؤيته: فسويسرا، الوطن البديل، ليست نقيض الصحراء بل انعكاسها في مرآة أخرى. هناك، في "الفردوس البارد"، يختبر الكوني الغربة ذاتها، ويتساءل: هل يمكن للإنسان أن ينفصل عن طبيعته الأولى؟

يتحوّل المكان عنده إلى حقلٍ دلالي للبحث عن الأصل لا عن الجغرافيا. كل تضاد (صحراء/ثلج، جنوب/شمال) ليس سوى صدى لسؤالٍ واحد: أين يقف الإنسان من الكون؟ ومن ذاته؟

لغته الفلسفية التأملية تستدعي التراث الصوفي والحكمة القديمة، لكنها لا تنغلق عليهما، بل تمزجهما بتجربة المنفى الحديثة ليقول إنّ الطبيعة لم تَعُد مجرّد مأوى، بل كائنٌ حيّ نُسِيَ أن يُصغى إليه.

تشكّل الطبيعة عنصراً أساسياً في السرد بتأثيرها على الحدث

أما أحداث رواية "غابة"، فتدور في قرية فرنسية صغيرة تُدعى ميتسا، حيث يثور الجدل حول مشروع لإنشاء بلدة تكنولوجية على غرار "وادي السيليكون". يقف توماس، رئيس البلدية، ضد المشروع الذي يهدد ذاكرة المكان وجماله، مدفوعاً بحبه للطبيعة وحنينه إلى زمن أكثر بساطة وتوازناً. تبدأ الرواية بمشهد عملي، حين يحمل توماس غالونات البنزين وحزم القش في الثلج، ويشعل النار في البيوت الخشبية والآليات بعد فشل كل أشكال المقاومة السلمية.

إن كانت حبكة الرواية واضحة: صراع بين الطبيعة واللاطبيعة/التكنولوجيا/رأس المال. يمكننا عندها تقسيم شخصيات الرواية إلى معسكرين. المعسكر الأول يضم توماس، إيلينا حبيبته، صديقه ماكس، وآري العشرينية، ابنة عصر شبكات التواصل التي تستخدم المنصات الإلكترونية للدفاع عن الغابة. يركّز هذا المعسكر على حماية الأرض والجبل والطبيعة ومواجهة غول التكنولوجيا.

حتى داخل المعسكر الواحد توجد اختلافات في الرأي والأسلوب: توماس يختلف مع إيلينا حول الأساليب المناسبة للدفاع عن الغابة، وتكثر بينهما النقاشات حول الجمال والعنف والتكنولوجيا؛ مع آري حول دور الجيل الجديد في المقاومة الرقمية؛ ومع ماكس حول المدى الذي يمكن الذهاب إليه في مواجهة المشروع. كل شخصية لها وجهة نظر منطقية وخصوصية في الدفاع عن قيمها.

المعسكر الثاني يضم أصحاب المشروع، ذوي الأموال الطائلة، روبرت رئيس اللجنة المؤيدة للمشروع، وعدداً من المواطنين الذين يرون أن البلدة التكنولوجية ستنقذ القرية اقتصادياً وتفتح فرص عمل، ويعتبرون التقدم التكنولوجي ضرورة لضمان المستقبل. هذا المعسكر يبرّر موقفه بالمنافع الاقتصادية والاجتماعية.

يقف بين المعسكرين آندري النقيب، المسؤول عن القانون، الذي يسخر بأنهم في هذه الضيعة ليسوا مجهزين ولا مدربين إلا لفض مشاكل بين قرويين يختلفون على صياح الديكة ونباح الكلاب. يسخر من نفسه ومن قدراته ومن القانون العاجز عن الدفاع عن المواضيع الكبرى، رغم كونه صديقاً لتوماس ويحاول التوازن بين الواجب الشخصي وتطبيق القانون.