الشيطان الذي بداخلنا

الشيطان الذي بداخلنا

19 فبراير 2022
صباح الدين علي (1907-1948)
+ الخط -

هذا العالم موجودٌ منذ ملايين السنين، وأقدم شيء فيه عمرُه عشرون ألف سنة. حتى هذا الرقم مُلفّق. كنت أتحدث مع معلّم الفلسفة منذ عدة أيام، فتحتُ الحديث بغاية الجديّة، وحاولت البحث معه عن حكمة الوجود. وهو أيضاً لم يستطع الإجابة عن سؤال مجيئنا إلى هذه الدنيا. 

تحدّث عن لذة الخلق، وعن حقيقة أن الحياة حكمة في ذاتها، لكنها فكرة واهية. ماذا ستخلق؟ الخلق هو الإيجاد من العدم، وحتى في رؤوس مَن هم أكثرنا عقلاً، لا يمكنهم تجاوز ما راكمه الأولون من معرفة وتجارب. إن الذي نريد خلقه هو الموجود في عقولنا، فقط نُغيِّر شكله ونُخرجه إلى الوجود. هذا العمل المضحك كيف يُطمئن الإنسان؟! لا أدري. هذا الأمر لا يبدو منطقيّاً إليَّ. 

يحاول الكُتَّاب أن يصيروا خالدين، رغم أن أجمل الكتب ستتعفن في المكتبات بعد خمسين عاماً، وبعد خمسمائة عام ستُنسى حتى أسماء مَن كتبوها، أو بعد ثلاثمائة ألف عام. ومن أجل عرض بعض التماثيل التي بلا ذراع أو رجل في المتحف، يضيّع عمره الفنانُ وهو يعجن الطين، وتمضي الحياةُ وهو ينحت في الرخام.    

ثم تمتم عمر ببطء، بأداء مَن سيحكي شيئاً مهمّاً:
- في رأيي، شيء واحد فقط هو الذي نستطيع فعله في الحقيقة، ألا وهو الموت. انظرْ، نستطيع أن نفعل هذا، ونكون هكذا قد استخدمنا إرادتنا بالكاد. بالتأكيد ستقول الآن: ولماذا لا تفعل أنت هكذا؟ ألم أقل لك قبل قليل، أنا في حالة خمول تام. أتكاسل، وبموجب قانون الخمول، أنساق في الحياة هكذا. إيييه.

فُتِحَ فمُهُ بشكل غريب، ثم تثاءب. مدّ قدميه، فاعتدل الرجل الجالس أمامه، الذي يقرأ جريدة باللغة الأرمنية، ونظر إليه بعبوس. 

ولأن صديقه كان قد سمع منه ذات الكلام ربما للمرة العاشرة، فلم يستمعْ إليه باهتمام، واستمر في التطلع إلى الأشياء من حوله، وكأنه يريد أن يستجمع فكرة في رأسه، مُقطِّباً حاجبيه واستمر في التمتمة.

وبعد أن انتهى خطاب صديقه، تبسّم إليه وقال:
- عمر، ألديك نقود؟ ما رأيك أن نشرب عرقاً هذا المساء؟

فردّ عمر بوقاحة لا تليق بكلامه العميق قبل قليل:
- لا، ولكن من الممكن أن نخدع أحدهم. لو أمرّ اليوم على دائرة العمل، سيكون أمراً بسيطاً، ولكن ليس لديَّ أي نية لذلك.

فقال الشاب الضعيف وهو يهزّ رأسه:
- قريباً يفصلونك عن العمل. هل يُعقل أن تُهمل العمل إلى هذه الدرجة؟ إنهم من الأساس يبحثون عن أي ذريعة لكي يُلقوا بالموظفين الذين يدرسون في الجامعة خارج العمل. ووَضْع الذين يعملون في البريد من أمثالك، أكثر سوءاً بكثير. الوقت في البريد أغلى من أي مكان آخر، أو يجب أن يكون كذلك. 

ثم أضاف ضاحكاً:
- وهذا الأمر ليس من الفراغ، فالخطاب الذي نرسله من حيّ بيازيد إلى إيمينونو يستغرق ثمانيَ وأربعين ساعة. فليحيَ الموظفون المواظبون من أمثالك.

أجاب عمر بهدوء:
- ليس لي علاقة بالخطابات. أنا محاسب، أملأ الدفتر حتى المساء، وأساعد الصرّاف في بعض المساءات. إنَّ عدّ النقود لشيء ممتع يا عزيزي نهاد.

قال نهاد متحمّساً:
- إنه لشيء غريب.. النقود شيء غريب من الأساس. كثيراً ما أُخرج ليرة من جيبي وأحدّق فيها لساعات. ليس فيها شيء مميز؛ بعض الرسوم البارعة وخطوط كالتي يرسمونها في المدارس، وربما أرقّ، لكنها مبعثرة قليلاً. وعليها صورة أيضاً وكتابة قصيرة وإمضاء أو إمضاءان.. وإذا اقتربتَ قليلاً من النقود تأتي إلى أنفك رائحة الزيت والوسخ، ولكن فكّر يا عزيزي، ما أعظم هذا الورق المتسخ!

ثم أغمض عينيه قليلاً وقال: 
- مثلاً، في أي يوم من الأيام، إذا كنت منزعجاً من شيء يضايقك، وكنتَ ترى الحياة مظلمة وبلا معنى، وقتها يبدأ الإنسان بالتفلسف مثل هذيانك قبل قليل. وحتى إنه مع الوقت لا يقدر على فعل ذلك، ويشعر أنه لا يرغب حتى في فتح فمه، ويتصور أنه ليس بوسع أي شيء أن يُشعره بالمتعة، ويصير الهواء خانقاً وبلا معنى؛ إما حارّاً جدّاً أو بارداً جدّاً أو ممطراً جدّاً. وينظر إليك القادم والذاهب بحماقة وهم يسعون خلف عمل لا يساوي ثلاثة قروش، مثل الماعز الراكض خلف الحشيش ولسانه يمتد شبراً إلى الخارج. ما هذه الروح المتسخة!

إن العُقَدَ النفسية الغامضة، التي لا تُحلّ، تُنشر أمامك، وتتعلق جميعها بكلمة "اكتئاب"، التي قرأتُها في أحد الكتب، مثل طوق النجاة. ولأننا جميعاً لدينا فضول لوضع اسم لهمومنا، سواء كانت ماديَّةً أو معنويّةً، نُجنّ تماماً إذا لم نستطع فعل ذلك. ولولا هذا الفضول لمَاتَ الأطباء من الجوع. 

وبينما تتعلق بكلمة الاكتئاب، وتكون مشاكلك الداخلية كالبحر بلا حدود، تلتقي صديقاً لم ترَه منذ وقت طويل. وفور رؤيتك له بثيابه المهندمة، يأتي إلى عقلك سريعاً أنك مفلس. وإذا كنت محظوظاً يمكنك أن تستدين من صديقك ليرة أو ليرتين.. وبعد ذلك تبدأ المعجزة، وكأن رياحاً قويّةً قد مَحَتْ طبقة من ضباب روحك، وفجأة يضيء داخلك، وتشعر بخفّة روحك وبَرَاحِها. وتذهب ضائقتك القديمة كالطير. وتنظر برضى إلى الأشياء من حولك، وتبدأ بالبحث عن صديق لتتجاذب معه أطراف الحديث. 

وهكذا يا عزيزي، ما لم تحققه مجلدات الكتب وساعات من التفكير، تحققه ورقتان متسختان من النقود. ولأنك لا تقبل أن تكون روحك مقابل هذا الثمن الرخيص، فربما تبحث عن أسباب أنبل؛ مثلاً، لأن سحابة تعلو في السماء لبضع مئات من الأمتار أو لأن النسيم البارد يهبّ على قفاك، أو لأن فكرة ذكية جاءت إلى عقلك، وفي هذه الأثناء تحاول أن تُظهر أن هذه الأشياء هي سبب تغيّرك. ولكن، والكلام بيننا، الأمر عكس ذلك تماماً، فبفضل الليرتين اللتين يدخلان إلى جيوبنا، تشعر أن الهواء قد برد قليلاً، وحتى من الممكن أن تكون الأفكار الذكية التي تأتي إلى عقلك، لهذا السبب أيضاً.

قم يا عزيزي، لقد وصلنا إلى المرفأ، يوماً ما؛ سنُجَنُّ أو سنسيطر على العالم. لنحاول حاليّاً العثور على نقود العرق، ونشرب بعض الكؤوس على شرف مستقبلنا المشرق.
 

* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، والنص المقتطف هنا فصلٌ من رواية "الشيطان الذي بداخلنا" التي تصدر قريباً عن دار "مرايا"

كتب
التحديثات الحية

المساهمون