استمع إلى الملخص
- في الأفلام التجريبية، استخدم مخرجون مثل هانز ريختر الأشكال التجريدية والزمن الإيقاعي لخلق تجارب بصرية تشبه القصائد، مما يعكس البعد الشعري من خلال الإيقاع والرمزية.
- تطورت "السينما الشعرية" في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث قدم مخرجون مثل أندريه تاركوفسكي أعمالاً تعمق البحث في البعد التصويري الحالم، مع أمثلة عربية مثل "المومياء" لشادي عبد السلام.
استلهم عدد من الشعراء تقنيات السينما مثل اللقطات، والمونتاج، والتصوير، والموسيقى التصويرية، في كتابة قصائدهم. وكان لظهور هذا الفن في أوائل القرن العشرين أثرا كبيرا على التوجهات الشعرية الحديثة. في الجهة المقابلة، تبدو العلاقة بين الشعر والسينما في أوضح صورها مع صانعي الأفلام الطليعيين، المشبعين بالأفكار الجديدة، والمتأثرين بالحركة الشعرية السوريالية مثل مان راي، وهانز ريختر، وجيرمين دولاك، ومايا ديرين، الذين اكتشفوا كما وظّفوا مفهوماً جديداً يُعرف بـ"السينيبويم" (cinepoems) – القصائد السينمائية.
وليس هناك بالنسبة للمخرج والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني من تعارض بين كتابة سطر من قصيدة وتصوير لقطة. هذا ما جعل انتقال الشعراء من الجلوس أمام الورقة إلى الوقوف خلف الكاميرا أمراً بديهيّاً. وفي ميلهم للتشظي والتكثيف، منحتهم السينما إمكانية تفكيك السرد وتحويله إلى انطباعات تأملية أو حالات داخلية. ففي فيلمها "البيت أسود"، تصوّر الشاعرة فروغ فرخزاد واقعاً قاسياً لمرضى الجذام، لكن بطريقة حلمية غير خاضعة للزمن. بينما شكّل الخيال الشعري للشاعر جان كوكتو العوالم السينمائية الحالمة والسريالية لأفلامه المشهورة "دم الشاعر"، "أورفيوس"، و"الجميلة والوحش".
الشعر في الأفلام التجريبية
كان هانز ريختر من أوائل الفنانين الذين تعاملوا مع السينما باعتبارها شكلاً شعرياً. ففي عشرينيات القرن الماضي، وُصفت أفلامه بأنها "لغة جديدة، لها قواعدها وإيقاعها وإمكاناتها الشعرية الخاصة". وفي فيلمه "إيقاع 21" (1921)، استخدم الأشكال التجريدية والزمن الإيقاعي ليصنع تجربة بصرية أشبه بالقصيدة دون قصة أو شخصيات. وبحسب الباحث ويليام ويس، فإن أفلام ريختر التجريدية "تحتل مساحة الشعر الغنائي في السينما، مغلقة على ذاتها، إيقاعية، ومُوحية". بينما وصفت مايا ديرين اللحظات الشعرية في أفلامها بأنها "تحقيقات عمودية"، أي انقطاعات وجيزة في السرد تهدف إلى التعمّق في المعنى، على غرار المونولوغ في مسرحيات شكسبير الذي يُكثّف البُعد العاطفي للحظة.
ليست مجرد سرد بصري بل هي لغة شعرية تولد من إيقاع الصورة
ورغم غياب النص المكتوب، فإن البنية والمحتوى يعكسان البعد الشعري في تلك الأفلام: شعر الحلم كما في فيلم "كلب أندلسي" (1929)، لكل من لويس بونييل وسلفادور دالي، وفيلم "تشابكات بعد الظهر" (1943)، لمايا ديرين، الذي يُعد قصيدة سينمائية ذاتية. أو شعرٌ مغرق في الرمزية حدّ الغموض، كما جسّده فيلم "الصدفة ورجل الدين" (1928)، كتبه الشاعر المسرحي أنطوان آرتو وأخرجته جيرمين دولاك. ثم فيلم "8 × 8: سوناتا شطرنج في 8 حركات"، الذي بُني من قصائد دادائية مجمّعة، وأخرجه كل من هانز ريختر، مارسيل دوشامب، وجان كوكتو.
شاعر سينمائي
يمكن اعتبار السينما شعراً من نوعٍ ما، والمخرجين شعراء أيضاً. ذاك هو رأي المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني حين وصف نفسه بأنه شاعر سينمائي: "أنا شاعر سينمائي، لكن بدلاً من الكتابة على الورق، أكتب على شريط الفيلم". ووفقاً لوجهة نظر مماثلة، فإن السينما هي أقصى واقع شعري يمكن تخيّله، إذ إن لغتها في الأساس لغة شعر، كما أن جسديّتها الشبيهة بالحلم تجعلها أقرب الفنون إلى الشعر.
في حقبتها الصامتة، بدت السينما بطبيعتها العفوية فنّاً قريباً من الشعر، من خلال اعتمادها على الصورة التي ترمز وتوحي أكثر مما تحكي مباشرة، تماماً كما تفعل الاستعارة الشعرية. فالإيقاع عبر المونتاج وتتابع الصور وحركات الجسد، كلّها تقنيات قريبة من الإيقاع الشعري الذي يعتمد على الوقفات والانقطاعات، إضافة إلى الإيحاء حيث لا توجد حوارات تشرح، بل إيماءات، ورموز، ولقطات مقطّعة وظلال. وقد استخدم مخرجون مثل جورج ميلييس الاستعارة البصرية، والفضاء، والمونتاج بطرق تشبه بنية القصيدة تماماً.
مع بداية القرن العشرين، تعمّق اهتمام السينما بالشكل البصري للفيلم، إلى درجة بدا معها وكأنّه نص شعري يتشكل بالضوء والحركة. يُعدّ فيلم "رجل يحمل كاميرا" (1929)، لدزيغا فيرتوف، مثالاً حيّاً على "قصيدة بصرية"، وإن كان يمزج بين الواقعية الوثائقية والمونتاج التجريبي.
تأملات الزمن والمعنى
في النصف الثاني من القرن العشرين، قدمت السينما وسائل جديدة للتجسيد البصري والتعبير الصوتي. فمن التجارب السوريالية لجان كوكتو، إلى الأعمال التأملية لأندريه تاركوفسكي، وصولاً إلى اللعب بالحبكة التقليدية في أفلام جيم جارموش، نشأ ما يُعرف بـ"السينما الشعرية" كنوع فني قائم بذاته. برزت أعمال ذات نزعة تأملية، عمّقت البحث في حاجة السينما إلى البعد التصويري الحالم. فقد أصبح الهدف الأسمى هو إبداع سينما في مستوى الشعر، حسب تعبير المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي: سينما تضع المشاهد في قلب اللحظة، دون أن توجّهه إلى هدف محدد، بل تدعوه إلى المشاركة العاطفية وبناء موقف ما مما يشاهد.
في فيلمه "سولاريس" (1972)، أو "المرآة" (1975)، يتريّث تاركوفسكي كشاعر التفاصيل عند الماء، والنار، والريح... ليجعل من الزمن مادة سينمائية؛ الصورة هنا ليست انعكاساً، بل كشفاً، والسينما ليست سرداً بل رؤية. هذا ما نجده أيضاً عند مخرجين أمثال: آلان رينيه، وإنغمار بيرغمان، وأكيرا كوروساوا، ومايكل رادفورد، وترينس ماليك، إضافة إلى عباس كيارستمي، الذي قال عنه أحد المفكرين الإيرانيين إنه "أول شاعر بصري في الأمّة".
أما الشاعرة مارغريت تايت، الرائدة في ما يُسمى بـ"الشعر السينمائي البريطاني"، فقد أخرجت إلى جانب عدد كبير من الأفلام الشعرية القصيرة، فيلمها الروائي الطويل "الأزرق والأسود الدائم" (1992)، مركّزة فيه على جمال اليومي، والطبيعة، واللحظات الإنسانية الهادئة. وإلى جانب هؤلاء، يُعدّ الشاعر جوناس ميكاس "الأب الروحي للسينما الأميركية الطليعية"، إذ حقّق نقلة نوعية حين ربط السينما بالشعر عبر أعمال عديدة، تأملية، شخصية، تشبه اليوميات المرئية.
هكذا لعب الشعر دوراً جوهرياً في توسيع أفق السينما، في الغرب كما في الشرق. أما في العالم العربي، فيصعب الحديث عن شعراء وراء الكاميرا، أو عن "سينما القصيدة" التي لا نجد من يمثلها كما مثّلها سيرجي باراجانوف في فيلمه "لون الرمان" (1969). لكن، ثمّة أفلام قليلة تشرّبت هذه الجماليات، بعضها تجريبي قصير كفيلم "الزيارة" (1970)، لقيس الزبيدي، وبعضها طويل كفيلم "المومياء" (1969)، لشادي عبد السلام؛ ما يجعل السؤال مشروعاً عن أسباب هذا الغياب.