"الشبيه" لجوزيه ساراماغو: نفي الآخر

30 نوفمبر 2024
عرض للأنا وللآخر، ومعالجة ما بين الاثنين من صلة
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- رواية "الشبيه" لجوزيه ساراماغو تطرح أسئلة حول الفن الروائي والشرط الإنساني من خلال قصة تيرتوليانو الذي يكتشف شبيهه دانييل.
- تعتمد الرواية على فكرة فانتازية للتعمق في السلوك الإنساني وتناقضاته، مشيرة إلى العلاقة بين الأنا والآخر وكيف يمكن أن تكون وهمية.
- تتطور الأحداث بتبادل الهويات بين الشبيهين، مما يؤدي إلى تعقيدات درامية وحادث مأساوي، وتطرح تساؤلات حول مفهوم الهوية والوجود.

لا نخطئ حين نفكّر في أنّ رواية "الشبيه" للبرتغالي حائز "نوبل للأدب" جوزيه ساراماغو، الصادرة عن "منشورات الجمل"، والتي نقلها إلى العربية من البرتغالية، في ترجمة متينة، سعيد بن عبد الواحد، هي تحفة روائية. وتبعاً لذلك، تطرح الرواية أسئلة بالغة على الفنّ الروائي، بل على الفكر والشرط الإنساني. رواية كهذه لا تفتأ تستفزّنا، وتبتعث حيرتنا وتضعنا أمام وعيها وأطروحتها ومفارقتها، فلها عالمها ولها سجالها ولها أسلوبها ومقارباتها، ونحن نجتهد لنلاحق كلَّ ذلك ونتوغّل فيه.

رواية "الشبيه" من بدايتها تطرح سؤالاً، يبدو لأوّل وهلة غرائبياً. تيرتوليانو مكسيمو ألفونس، وهذا بحسب الرواية اسم غير مألوف، يكتشف بإيعاز من صديق أنّ ثمّة ممثّلاً ثانوياً هو دانييل سانتا كلارا يشبهه تمام الشبه. يقوده هذا إلى أن يستأجر عدداً من الأفلام التي يلعب فيها، ليتأكّد من ذلك. يلاحظ الشبه الكلّي فيسعى لأن يتعرّف على شبيهه. يبحث في دليل الهاتف لكنّه لا يجد الاسم، لذا يُرسل إلى شركة الأفلام رسالةً يسأل فيها عنه، لكنّه يرسلها باسم صديقته ماريا داباش. يخبرها بذلك من دون أن يوضّح لها السبب، ويأتيه الجواب بأنّ هذا ليس اسم شبيهه الحقيقي، إنّه اسمٌ فنّي. أمّا الاسم الحقيقي فهو أنطون كلاروا.

إذاً تلك هي الآن فرصته ليتّصل بكلاروا المتزوّج بهيلانة بينما شبيهه مطلّق وله علاقة بماريا تلك. هذا الأصل الذي تبني عليه الرواية. إنّه أصل فنتازي، لكن الرواية مع ذلك لا تتوقّف عند الفنتازيا، بل هي، رغم ذلك، فانتازيا، فانتازيا وغير فانتازيا.

الحدث الذي يخترق الرواية (الشبَه) ليس كلّ الرواية. الحدث الغرائبي لا يستتبع معالجة غرائبية. الرواية تسترسل في ملاحقة هذا الموضوع، إنّها تلاحقه، في تفاصيله ولحظاته، بأسلوب ليس فيه من الغرائبية شيء. اللحظات التي يمرّ بها بطل الرواية تيرتوليانو هي بسط واسع مسترسل لتداعيات بسيكولوجية وفكرية وتفاصيل واقعية، بل يمكننا القول إنّ قوّة النصّ هي هنا أوّلاً.

الموضوع الفانتازي في الرواية لا يلقى معالجةً غرائبية

الموضوع الفانتازي في الرواية لا يلقى معالجةً من نوعه، بل يمكن القول إنّ المعالجة هي من مصادر أُخرى ليس غرائبية البتّة، بل هي تستدعي الموضوع الفانتازي لغاية، أو لغايات أُخرى، هي التدقيق العميق في السلوك الإنساني، والتغلغل في نقائض وطرائف وأصول وعناصر الموقف، أو المواقف الإنسانية. هكذا تطفو الحيرة والقلق والطرافة والتضادات والأفكار والخواطر التي تغلي وتتفاعل، في تفاصيل ولحظات ومباني السلوك الإنساني. هنا، كما هي الحال في "مسخ" كافكا، يتوسّل الكاتب الغرائبية لبطلٍ إلى رؤى مسهبة ومتعدّدة ومتضاربة، هي في العمق ترجع إلى تحليل نافذ للواقع نفسه وللمواقف والمواجهات الحقيقية، أي إنّ الشبيه هنا هو عرض للأنا وللآخر، ومعالجة ما بين الاثنين من صلة، هي في العمق الذي يطرح، من بعيد، الكوميديا الإنسانية.

يجري بين الشبيهين ما نفهم منه أنّهما واحد في كلّ شيء، ولأنّهما كذلك فهما يتبادلان النساء، كلاروا يذهب مع خطيبة تيرتوليانو، والآخر يذهب إلى زوجة الأوّل. الاثنان يتبادلان، قبل ذلك، الهويات والأسماء والعلامات الأُخرى. يخرج تيرتوليانو من عند هيلانة ليُفاجأ بأنّ كلاروا وماري دباش العائدين في سيارة تيرتوليانو يصطدمان بشاحنة، ما يؤدّي إلى موتهما. لقد بقي أحدهما، ولكن باسم الآخر، الذي لا يفترق عن الأصل، بل هو غير موجود إزاءه. الأنا والآخر لعبة، إنّهما وهم، ليس هناك لا هذا ولا ذاك. تقبل هيلانة بتيرتوليانو بديلاً عن زوجها كلاروا، كأنّ الفرق ليس شيئاً، بينما تصارع ماريا دباش، بعد أن استشفّت الفارق، وشعرت بأن كلاروا ليس خطيبها. القبول وعدمه ينسفان المسألة من أساسها، خاصّةً حين نعرف أنّ هنالك ثالثاً هو الآخر شبيه. لن يقبل تيرتوليانو به، لكنّنا لا نزال نشكّك في الاختلاف بينه وبين شبيهه، بل تبدو المسألة وكأنّها محو للآخر الذي لن تعود له قائمة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون