الشاعر مترجِماً

02 ديسمبر 2024
جزء من عمل لـ الجيلالي الغرباوي، زيت على قماش، 65 × 55 سم (1955)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يهيمن الشعراء المترجمون في العالم العربي على ترجمة الشعر، حيث يقوم شعراء بارزون بترجمة أعمال غربية، مثل أدونيس ومحمد بنيس.
- تثير هذه الظاهرة تساؤلات حول ضرورة أن يكون المترجم شاعراً، مستشهدة بقضية فيكتور أوبيولْس الذي أُعفي من ترجمة قصيدة بسبب معايير غير أدبية.
- يرى بعض النقاد ضرورة أن يكون المترجم شاعراً، بينما يؤكد منظرو الترجمة أن الخبرة والتمرس كافيان لتحقيق ترجمة ناجحة دون الحاجة لأن يكون المترجم شاعراً.

يندهش قارئ الشعر المترجَم إلى العربية من غلبة كفّة الشعراء المترجِمين، في عالمنا العربي، على غيرهم من متعاطي الترجمة الأدبية. واللافت أنّ شعراء مرموقين، ولا اختلاف حول مكانتهم في ساحة الإبداع، هُم الذين يتعاطون ترجمة أشعار آخرين غربيّين أساساً إلى اللغة العربية. والحقيقة أنّ شعراء العرب المترجِمين ليسوا بِدعاً، فالكثير من شعراء الغرب البارزين أيضاً ترجموا إلى لغتهم أشعاراً لغيرهم من ثقافات أُخرى. وإذا أردنا أن نضرب أمثلة من شعرائنا العرب، فسنجد في المقدّمة أدونيس، ومحمد بنيس، وحسب الشيخ جعفر، وعبد اللطيف اللعبي، ورفعت سلام، والمهدي أخريف، من بين كثيرين.

ولا غرابة في أن تستفزّ هذه الحالُ المهتمّ، فيتساءل: أيكون الشاعر أوفى وأخلص في أداء الأمانة عند نقل قصيدة أجنبية إلى لغته وثقافتها دون سواه من المترجِمين؟ وما السرّ في إرجاء هذا الشاعر كتابة قصيدته بتفرّغه لإضافة قصيدة غيرِه في لغته؟ وأيّ لمسة تكتسيها القصيدة عند إعادة كتابتها ممتزِجةً بصوت الشاعر؟ وهل تقتضي ترجمة الشعر من المترجِم أن يكون شاعراً بالضرورة؟ 

الواقع أنّ التساؤل الأخير يعيد إلى ذهننا تلك القضية المحرجة والملاحظات الوجيهة التي كشفها المترجِم الكتلاني فيكتور أوبيولْس بعدما تراجعت منشورات "أونِيفرس" لمجموعة "إنسيكلوبيديا كاتالانا"، عن تكليفه بترجمة قصيدة "التلّة التي نتسلّق" للشاعرة الأفروأميركية أماندا غورمان، التي تألّقت في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن. كان المترجم بعد توقيعه العقد، قد قطع أشواطاً مهمّة في عمله، وعلى الرغم من التزام دار النشر تعويضه عن جهده، فقد أعرب عن أسفه، قائلاً: "اعتُرِض عليَّ، على الرغم من الإعجاب بسيرتي الذاتية. إنهم يريدون أن يكون المترجِم امرأةً، وناشطة حقوقية، ويُفضّل أن تكون سوداء".

رأى الجاحظ ضرورة أن يكون مترجِم الشعر شاعراً

ما يُثير الاستغراب في هذه الواقعة، أنّ دار النشر ألحّت، في واقعة ف. أوبيولْس، على ضرورة توافُر شروط خارجية، أي غير أدبية حتى لا نقول شعرية، وأغفلت شرطاً دأب كثيرون على اعتباره جوهرياً عند ترجمة الشعر، وهو أن يكون المترجِم شاعراً.

والارتياب في إمكان ترجمة الشعر موقفٌ قديم، وأنّه عُرِف في صيغة جنينية تضمّنتها آراء الجاحظ في الترجمة، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى الشاعر بصفته حكيماً، وأعدنا تأمُّل قول الجاحظ: "إنّ الترجمان لا يؤدّي أبداً ما قال الحكيم"، والذي نجدُ فيه تأكيداً لاستحالة ترجمة الشعر، لأنّه بحسبه "لا بدّ للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواءً وغاية"؛ أي إنّه يُكاشفنا ضمناً بضرورة أن يكون مترجِم الشعر شاعراً، لأنّ لا قِبَل لأيّ مترجِم غيرِ شاعر أن ينهض بهذه المهمّة الجسيمة.

والأرجح أن تكون القضية حديثةً من افتعال بعض النقّاد، وأن يكون الكثير من القرّاء قد انساقوا معهم، للثقة التي يضعونها فيهم، بحُكم تمرّسهم بقراءة النصوص والتعليق عليها، ودراستها وتدريسها، خصوصاً أنّ معظم هؤلاء النقّاد أكاديميون؛ لكنّ ما يغيب عن الاثنَين معاً، اعتراضُ التنظير الترجمي وتفنيدُه لهذا الموقف، فقد اهتمّ منظّرو الترجمة، في العقدَين الأخيرَين، بالتأكيد أنّ القول بتعذُّر النصوص على الترجمة لا صدقية له، وأنّ كلّ النصوص تُضمر في ذاتها قابلية للترجمة، ومن ضمنها النصوص الشعرية، التي أثبت كثيرٌ من أمثلتها المترجَمة روعتها وتأثيرها في مسير الآداب العالمية، ولم تشترِط في مزاولها أن يكون شاعراً، بل أن يكون ذا تمرُّس وخبرة بالمجال، كما الحال بمُترجِم النصوص الطبية، الذي ليس شرطاً أن يكون طبيباً، وقِس على ذلك بقية المترجِمين.

ويبدو أنّ العلاقة الحميمة التي تطبع صلةَ الشاعر باللغة، وتواشجها المتين مع ثقافة مجتمعه في كلّيتها، قد خوّلته هالةَ وأولويةَ ترجمة الشعر إليها، لاعتقاد النقّاد أنّه الأقدر على مراعاة المكافئ الثقافي، مقابل تصوّرهم أنّ المكافئ الكلامي هو الغالب على باقي المترجِمين.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون