استمع إلى الملخص
- تتنقل الرواية بين أحياء هافانا، حيث يمزج بادورا بين العام والخاص، مستعرضًا ذكرياته من الطفولة والبيسبول والحي الصيني، ليقدم صورة حية للمدينة وكأنها سيرته الذاتية.
- يبرز بادورا في القسم الثاني الجوانب الغامضة في تاريخ هافانا وتأثير انهيار الكتلة الشيوعية، مستندًا إلى مقالاته ورواياته، ليقدم صورة رمزية للمدينة في ذاكرته.
بعد روايته "مثل غبار في الهواء"، الصادرة عن دار "Tusquetes" عام 2020، والتي روى فيها قصّة مجموعة من الأصدقاء الذين نجوا من مصير المنفى والشتات، في برشلونة، وفي أقصى شمال غربي الولايات المتحدة، وفي مدريد، وبورتوريكو، وبوينس آيرس، يعترف الروائي الكوبي ليوناردو بادورا بأنّ كتابه الجديد "الذهاب إلى هافانا"، الصادر حديثاً عن الدار نفسها، هو الكتاب الذي لطالما أراد أن يكتبه؛ فهو، على حدّ تعبيره، "أغنية حُبّ عميقة ومتضاربة مليئة بالألم والعزلة" لمسقط رأسه، حيث عاش معظم سنواته السبعين تقريباً، والتي شهد تدهورها بلا حول ولا قوّة.
إنّها هافانا، حيث وُلد بادورا عام 1955 في حي مانتيلا المحيطي، وحيث لا يزال يعيش بإرادته، في شوارعها التي كما يقول في الرواية "هي مكانه في العالم"، وحيث شهد وأرّخ التشويه البطيء الذي لا يمكن إيقافه، رغم الوعود بتحويلها إلى جنّة شيوعية منذ عام 1959. لكن ما حدث هو انهيار معماري واقتصادي وديموغرافي وأخلاقي لا هوادة فيه، لطالما أشار إليه على لسان شخصية سلسلته الروائية "ماريو كوندي"، وفي المقالات الأدبية والثقافية التي كتبها في الصحافة الإسبانية منذ بداية العام.
"الذهاب إلى هافانا"، أو الذهاب إلى وسط المدينة، هذا التعبير الذي يستخدمه سكّان الأطراف الحضرية التي تحيط بمركز العاصمة الكوبية. لكن بادورا يقترح في روايته رحلة مزدوجة تُكشف مساراتها وطرقها وخفاياها في جزأين: في الرحلة الأُولى، سيكون هو الذي يذهب حاملاً معه أمتعته وحياته وتجاربه الأدبية ورواياته إلى هافانا. أمّا في الرحلة الثانية، فسيعاود الرحلة نفسها، لكنه سيصل إلى هافانا مدفونة تحت ركام النسيان، ولن يسعفه في رحلته الثانية هذه إلّا البحث والقراءة وتتبُّع أحداث وشخصيات وأماكن وبيئات مدينة تكاد تُمحى، حيث يبدو كلُّ شيء فيها سريع الزوال.
انهيار معماري واقتصادي وديموغرافي وأخلاقي لا هوادة فيه
الانتقال بين صفحات الرواية، لا سيما في قسمها الأوّل هو بمثابة جولة في أحياء هافانا، شارعاً شارعاً، وحيّاً حياً، بصحبة الكاتب نفسه. هذا الانتقال بين أحياء المدينة، يرافقه انتقال في مسيرة الكاتب: الطفولة، ذكريات البيسبول، الحيّ الصيني المكتظّ بالبشر، والذي اختفى الآن، وغيرها من محطّات التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للمدينة.
قد يبدو، للوهلة الأُولى، أنّنا نتعامل مع دليل سياحي، لكنّ هذا الدليل لا يتردّد في سرد حكاية مدينته وكأنّه يسرد سيرته الذاتية، حيث يمزج بين العامّ والخاصّ، الماضي والحاضر، المشاعر والشخصيات، الذاكرة وما تبقّى منها.
أمّا القسم الثاني، فيغلب عليه طابع التقارير حول الجوانب الغامضة والأكثر إثارةً للدهشة في مسيرة الكاتب وتاريخ المدينة على السواء. من هنا لن يستغرب القارئ حين يرى أنّ أغلب هذا الجزء يعود إلى مقالات نشرها الكاتب في ثمانينيات القرن الماضي، في صحيفة "Juventud Rebelde"، حيث استطاع أن يوظّفها إلى أقصى حدّ ممكن، مبرزاً مهارة عالية في التحرير وفي إعادة رسم الشخصيات والتقاط المشاعر وإعادة خلق الأجواء.
إلى جانب هذه المقتطفات الصحافية، يدمج الكاتب أيضاً أُخرى من رواياته الأربع عشرة بهدف إظهار إلى أيّ مدى تخترق هافانا قصّته وتجربته المباشرة وتقلّبات سيرته الذاتية، وقبل كلّ شيء، غربته أمام مدينة أو وطن يتألّم اليوم، حيث يضع بادورا تسارع هذه "الغربة" ابتداءً من عام 1968، عندما حُظرت الشركات الخاصّة، وشرع الكوبيّون في السير على طريق الحرمان والتضحية.
أدّى هذا كلّه، تبعاً للكاتب، إلى تفاقم الفقر والتدهور في التسعينيات، بسبب انهيار الكتلة الشيوعية، ولجأت الدولة مرّةً أُخرى، في ما يُسمّى بالفترة الخاصّة، إلى روح التضحية المحطّمة لدى الكوبيّين. لكن الروائي، الذي كان منغمساً في رباعية "الفصول الأربعة" (1991 - 1998) البوليسية، تمكّن آنذاك من أن يصبح أوّل كاتب مستقلّ، وبدلاً من الانضمام إلى نزوح العديد من مواطنيه، واصل الكتابة "كالمجنون حتى لا يصاب بالجنون".
وهكذا، من خلال كتاباته المجنونة، قام بتفكيك هافانا رمزياً، واليوم أصبحت هافانا بادورا المدينة الساجدة التي يصرخ فيها سكّانها المنقرضون طلباً للشفاء، وهي نفسها المدينة التي يصعب سردها بمزيد من القوّة. لكنّ هافانا، رغم كلّ شيء، ليست مدينة واحدة مشوّهة ومكتئبة إلى حد الغرابة، بل هي طبقات عديدة لا تتوقّف عن التكرار في ذاكرته، وفي ذاكرة كلّ الكوبيّين.