استمع إلى الملخص
- بعد 2003، تعرض المثقفون لتهديدات بسبب آرائهم، مثل كامل شياع وعلاء مشذوب، بينما استمر آخرون في انتقاد الحكومات، مما يعكس التحديات السياسية.
- شهد العراق تحولات ثقافية منذ السبعينيات، مع سيطرة الدولة على الثقافة، واستمرت الأدلجة بعد 2003، مما يثير تساؤلات حول دور المثقفين في مواجهة التحديات السياسية الحالية.
قبل أيام استذكرالشاعر العراقي حميد قاسم مآثر الزعيم عبد الكريم قاسم، كما سمّاه العراقيون، وكيف خلّص الناس من ظلم شيوخ العشائر الإقطاعيين وفتح أبواب بغداد للفلاحين، بمناسبة ذكرى ثورة 14 يوليو/ تموز 1958، والتي أطاح عبرها المملكة العراقية الهاشمية، وقتل على إثرها أفراد العائلة المالكة.
استعادة الشاعر العراقي لقاسم، في منشور فيسبوكي، لمست وتراً حساساً، لتنهال التعليقات على منشوره، منها ما يتفق مع مضمونه ومنها ما يستنكر ويستغرب هذا المديح. ولأن العراقيين مؤخراً لا بد لهم أن ينقسموا كل فترة أمام موضوع جدلي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انشق الفيسبوك العراقي خلال الأيام التي مضت بين مؤيد لثورة تموز ورافض لها. لكن السؤال: هل المثقف العراقي مُطالب بأن يكتب وجهات نظره بالساسة والسياسة؟ ما هو الحد الفاصل بين الإفصاح عن الرأي الشخصي والأدلجة؟ من الذي له الحق برسم هذا الحد؟ لماذا يشجب البعض ما كتبه سعدي يوسف بعد 2003، ويتحفّظ آخرون على مديح عبد الرزاق عبد الواحد لصدام حسين ويُغض النظر مثلاً عن الجواهري؟
مسدسات للاستعمال لا للتحسس
عندما وصل الحزب النازي إلى سدة الحكم الألمانية عام 1933، كتبَ الشاعر الألماني هانز يوهست مسرحية عُرضت لمناسبة الذكرى الرابعة والأربعين لميلاد هتلر، ورد في تلك المسرحية وعلى لسان أحد الممثلين فيها جملةً: "كلما سمعت كلمة ’ثقافة‘ تحسستُ مسدسي". في عراق ما بعد 2003 لم تكتفِ الجماعات المسلحة بتحسس مسدساتها، كانت تستخدمها أيضاً حين تسمع أو تقرأ منشوراً كتبه مثقف ما، فاغتالت كتاباً ومثقفين مثل كامل شياع وعلاء مشذوب وأمجد الدهامات وهادي المهدي، وفي الوقت الذي كانت تتم فيه هذه التصفيات -السنوات التي أعقبت 2003 وصولاً إلى 2019- كان الشاعر سعدي يوسف من لندن؛ يكتب عن الحكومات التي أعقبت حكم صدام، يتهمها بالعمالة لإيران، بل حتى اتهم بعض مكونات المجتمع العراقي بالتبعية لها، وأن العراق صار "عراق العجم". تزامناً مع هذا؛ لم ينقطع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد عن افتقاد حكم صدام فيقول بعد أن يسأله مقدم قناة الشرقية: من هو سيف دولتك؟ فيجيب عبد الرزاق: "كُسر، كان لدي وكُسر، يكفي هذا الجواب؟ لم يبقَ لدي سيف دولة الآن، كنت أعتقد أن الرئيس العراقي الراحل كان سيف دولتي وفعلاً كتبت له وأسقطت حلمي بالبطولة عليه مثلما أسقط المتنبي حلمه بالبطولة على سيف الدولة".
هل المثقف العراقي مُطالب بأن يكتب وجهات نظره بالسياسة؟
بينما انشغل الشاعر موفق محمد بإظهار قُبح تجربة حكم الإسلام السياسي وأحزابه في "العراق الجديد"، بعد أن فَرِغَ من كتابة قصائده المعارضة لصدام وحروبه، فيقول: والسونار يتنشق الضائعين في السيطرات/ تاركاً المفخخات تعصف بأجسادنا/ المنخورة من صراع الديكة الهابطين علينا/ محفوفين بالملائكة/ من عواصم الثلوج/ ومن مزابل السيّدة/ ومن صناديق القمامة في قم.. للمعلم وفّه التبجيلا/ وهم يحملون معهم وظائفهم الإلهية/ تحت شعار (لو وزير.. لو ميصير)/ وصاروا وزرا/ وتصايحوا.. عراق أتجمع.. أسترح.. أستعد/ إلى الوراء در!".
فلاش باك
بدأ صدام حسين منذ بداية السبعينيات سلسلة لقاءاته مع الأدباء والمثقفين والكتّاب، حتى وصل مجموع اللقاءات إلى ثلاثة لقاءات في شهر واحد، ودَمج مكتبي الثقافة والإعلام بمكتب واحد ووزارتي الثقافة والإعلام بوزارة واحدة وألحق اتحادي الأدباء والكتاب والأدباء الأكراد بوزارة الثقافة والإعلام، وأزاح كل الصحف التابعة للأحزاب الأخرى وأبقى على صحافة الحزب الأوحد متمثلةً بقناتَين تلفزيونيتين وثلاث صحف. لكن هذه الأدلجة للثقافة والخطاب المعرفي الذي تحدده السلطة ليستا من اختراعات صدام حسين، قبلهُ ومع صيرورة الدولة العراقية بعد الاحتلال البريطاني، عَيّن الملك فيصل الأول مجموعة من المثقفين في الوظائف العليا لمواجهة معارضيه، فعمل الجواهري في تشريفات البلاط والرصافي مفتشاً عاماً بوزارة المعارف آنذاك -وزارة التربية والتعليم حالياً- وحسين الرحال مترجماً في وزارة الدفاع ومحمود السيد سكرتيراً لمجلس النواب وفهمي المدرس عميداً لجامعة آل البيت، هذه الأسماء التي كانت لها ثقلها المعارض وسلطتها المعرفية المستقلة صارت متعايشة مع العقدة المعروفة بين الذات المعارضة وتمثيلها في مؤسسات الدولة.
وصولاً إلى سلطة المحاصصة السياسية والتعددية الحزبية متعددة الولاءات بعد 2003، حتى لحظة احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أنتجت هذه الاحتجاجات سياقاً ثقافياً جديداً، يخلو من الأدلجة ويتبنى نتاجاً معرفياً حالماً بعراق مستقل بلا تبعية، لكن سرعان ما هدأت هذه الفورة بعد الالتفاف على الاحتجاجات بفعل قوة الماكنة الأيديولوجية الحزبية الحاكمة وعبر قنواتها الخطابية المتعددة، حتى وصل الحال إلى تخوين الشباب المحتج والتشكيك بنوايا الاحتجاجات والدعوة لنبذ تشرين وكل ما يتعلق بها من قبل بعض المثقفين.
حدث أخير
قبل أكثر من شهر، انتخب الشاعر عارف الساعدي وهو مستشار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للشؤون الثقافية، رئيساً للاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق. بعيداً عن استحقاق الساعدي لمنصبه، يبقى التساؤل الأهم: ما الذي يعني أن يكون رئيس الاتحاد مستشاراً لرئيس وزراء حكومته؟ هل لنا الحق أن نفتقد ما سيقوله اليوم الراحل موفق محمد؟ ونحترم وضوح الراحل سعدي يوسف؟ ونتفهم عبد الرزاق عبد الواحد؟