استمع إلى الملخص
- في سوريا، تبدو هذه الفكرة مثالية، حيث أن الحرب أضرت بالجميع. النظام السوري يعقد الأمور بتقسيم العالم إلى معسكرين، مما يتطلب لغة جديدة تتصالح مع التجربة السورية وتؤكد على العدالة.
- استمرار لغة الإهانة يعمق الانقسام في سوريا. يجب استبدالها بمفردات جديدة لقطع الماضي الأليم وحماية الفرصة التي أوجدها السوريون منذ 2011.
تحفل الحروب بشتّى أنواع الإهانة، حتّى إنَّ حدوثها بالمبدأ أشبه بالصفعة العمياء التي تتلقاها الإنسانيَّة في اللحظات التي تنقطع فيها اللغة باعتبارها بناءً وتواصلاً، لتصبح هدماً وقطيعة. فينوب الرصاص عن الكلمات. حتَّى لكأنَّه نقاشٌ من غير معنى أن نعرف أيهما يقود الآخر، الحروب أم انقطاع اللغة.
لكن، مع ذلك، فالمؤكّد أنَّ الحروب تنجب لغتها، وهي لغة تنفي الآخر، تقتله، وتجعل من التعامل مع الآخر، مع الخصم، تعاملاً مقتصراً على تصويرهِ وحشاً أو أقل من إنسان؛ إنَّه كلبٌ يعوي، قطّة تموء، جرذ يفرّ. ولا سبيل للبحث في أخلاقيات من يجبر الآخر على ممارساتٍ من هذا النوع البدائي المحتقر. لأنَّ المشكلة منذ البداية، هي الحرب، لا المتحاربون. وما ينبغي أن يصبح عليهِ الحال؛ هو السعي لإيجاد لغة يشترك فيها الناس مجدّداً. وهي لغة لا يعرفها المتحاربون، إنَّما يستوردونها من تجارب مشابهة، ومن ثمّ يبتكرون تجربتهم؛ وهي لغة مسعاها تحقيق العدالة، ثمَّ بناء عقدٍ جديد، ميثاق وطني يؤسس لعهدٍ جديد.
كأنَّما لا ينتهي درب الإهانة الذي حُشِر فيه السوريون
لكن يبقى هذا الطرح مثاليّاً في الحالة السورية، وهو مثالي، ببساطة لأنَّ المتحاربين، ليسوا في الإدراك نفسه بأنَّهم خاضوا حرباً جعلتهم جميعاً يقفون موقف المهزوم؛ بلدهم تحطّم، أعمارهم سُرقت، الاستبداد أرهق خصومه، وأرهق تابعيه، حتَّى إنَّ كثيراً من الأذرُع الناعمة للنظام الساقط خرجوا بوثائق تؤكّد براءتهم منه مثل مضايقات في السفر، وفي العمل، وغير ذلك من مراجعات أمنيَّة لأفرُعه. حتَّى لكأنَّ ذلك النظام، كان قادراً على جعل الجميع ملائكة وشياطين في الوقت نفسه. وليس أمراً مُجدياً اليوم استخدام لغة تقسم العالم إلى معسكرين، إنّها لغةُ حرب، لا حلّ أمام السوريين إلا الخروج منها، وابتكار لغة تتصالح مع التجربة كلّها. العدالة واجبة، والمحاكمات القانونيَّة واجبة.
مع ذلك، يبقى الحديث مثالياً، لأنَّ الصورة السائدة هي انتصار جهةٍ على أُخرى في سورية، وهذا خطر، لا لعدم صوابه فقط، بل لأنَّه يُعمّم لغة الاقتتال، التي ما هي إلا انقطاعٌ في اللغة المشتركة بين الناس، أو غيابٌ لها. لغة الإهانة، ليست لغة بناء، إنَّها باختصار ترويض جديد، لم يتوقف نظام الأسد عن استخدامها ضدَّ معارضيه، حتَّى إنَّ حلفاءه استخدموها معه، كما في المشهد الشهير في قاعدة حميميم الروسية عندما صدَّ أحدهم بشار الأسد عن اللحاق بالرئيس الروسي. وتلك إهانة من إهانات لا تُحصى، دفعت جموع السوريين إلى فصم الأسد عن الدولة التي كانوا يعيشون فيها. فالإهانات التي جلبها لنفسهِ، جلبها لشعبه كلّه، داخل سورية، وفي بلدان اللجوء، وفي بلدان العمالة الشاقة، وفي، وفي... وكأنَّما، لا ينتهي درب الإهانة الذي حُشِر السوريون فيه.
مع ذلك، ينبغي، استبدالُ لغة الإهانة التي أثقلت السوريين بمفرداتٍ جديدة تقطعُ مع تلك الفترة الرهيبة التي اشتملت حياة السوريين. أن تهين إنساناً، أمرٌ يُسيء إلى كُلِّ النضالات التي حدثت، ووصلت بالسوريين إلى إنجازهم، الذي مهما بدا أنَّه قد حدث بتوافق أو ترتيب إقليمي، إلا أنَّه سياقٌ سوري بدأ منذ عام 2011، وقبله بكثير عبر روح المعارضة والرفض التي استمرَّت حيَّة داخل هذا الشعب.
إذاً، رفض لغة الإهانة، لا يتأتَّى فقط من رفض تكرار الماضي، أيضاً لأنَّ الفرصة التي صنعتها جموع السوريين؛ مهدَّدة، وتهديدها يأتي من داخلها أولاً، مع تلك التَّرِكة من لغة الاقتتال التي استمرّت تخرج في خطابات كثيرة. يستطيع السوريون القول إنَّهم أسقطوا نظام حافظ الأسد، لكن القطع مع تركتهِ الذليلة المُذلّة مشوارٌ طويل يحتاج إلى شجاعة، قد لا تقل عن شجاعة إسقاطه.
* روائي من سورية